عمون
:
معان والجنوب ومدن تنام على
جراحها
..
2010-06-28
عمون
-
د.يوسف ربابعة - الرحلة إلى الجنوب اشتياق لزمن الصحراء الأول، ذلك أننا وكما
تقول الرواية أن اللقاء الأول بين آدم وحواء حصل في صحراء الجزيرة العربية في مكة،
وكان لقاء بعد شوق طويل، وما زلنا نحن إلى ذلك الزمن الصحراوي البهي، وكلما توجهت
جنوبا أحسست بذلك الشوق نحو قحط الصحراء وقساوة حرها وبهجة امتدادها، وكلما توغلت
سيرا أغراك السراب لمواصلة الطريق واستمتعت بخداع السراب ولا تفكر إلا بالمضي قدما
نحو نهايات الجنوب
.
غريبة
صحراؤنا التي تغريك بامتداد القحط لكنها تفاجئك بواحات خضراء كأنها رقع على وجه
الزمان، تبشرك بأنك زائر غير عادي فتعطيك كل ما لديها من الكرم والسخاء والظمأ
أيضا، وفي كل مرة يدعوني صديقي مهند مبيضين لمرافقته إلى البترا لا املك إلا أن
ألبي دعوته بلا تفكير أو تردد، وأشعر أنني مشدود لمدن الجنوب العطشى، لا أعرف
لماذا أعشق السفر عبر الطريق الصحراوي والاستراحة في القطرانة او في الحسا رغم
تواضع الاستراحات في ذلك الفضاء اللامحدود، ورغم خطورة الطريق بكل ما فيها من عيوب
هندسية وانحناءات غير مدروسة، فكل شيء في الجنوب صنع على عجل، كأن الذين ينفذون
المشاريع يهربون من فحيح الصحراء فينفذون مشاريعهم بسرعة دون التعمق في عيوب
المستقبل وأثره على الناس
.
على
عجل فتحوا الطريق .... على عجل بنوا الاستراحات .... على عجل كتبوا الشاخصات
...
على عجل مروا من هنا بجرافاتهم وخيلهم ورجلهم، وبقيت آثار سرعتهم تنذر المسافرين
بخطر ما يرون وما يشاهدون!!
لا
بأس .. أقول في نفسي مرة أخرى لعل الشوارع تفضي إلى مكان أجمل بل لعل المدن هناك
تلقى من العناية ما يغني عن وعورة الطريق، لكن المفاجأة أن شيئا مما أحلم به لا
يحدث، فحتى وادي موسى التي تحتضن البترا التي صارت من عجائب الدنيا السبع تقابلك
بفقر شوارعها وقلة حيلتها وصبرها على وجع السنين، لا تجد فرقا في التاريخ كأنها لم
تتغير منذ الملك الحارث حتى باسم الطويسي ومحمد الحسنات سدنة بيت الأنباط ويرفضون
تأجيره مهما بلغ الثمن
.
لله
دركم!! كيف بنيتم هذه المدينة العجيبة؟ .. بل كيف أطاعكم هذا الصخر الوردي الأحمر؟
كيف تسلقتم جبالها العاصية ونمتم على وجعها وحصارها حتى قتلكم العطش الذي ما يزال
هو قدر الجنوب؟.. لم يقتنع الرومان بعد دخولها إلا أن يبنوا بحجارتهم الزائلة
قصورهم على مرأى من كهوف المدينة العصية!!
مرة
أخرى أقول لا بأس فالمسير إلى معان قد يعطي أملا آخر ويطفئ حر اللهيب الذي يسكن
الأحشاء، تستقبلك معان بوجهها المشرق ويبتسم لك السائرون في شوارعها ولا يضيرهم ان
تسألهم عن أي مكان تقصده، بل يذهبون معك حتى يوصلوك مرادك، تشكرهم ويبتسمون،
وعندما تتعمق في الحديث وتأخذ ثقتهم بالكشف تجد أوجاعهم بلا حدود، ليس وجعا
بالنقمة، بل وجع بالعتب على التاريخ الذي تبدل، لقد كشفت معان وما حولها ذراعيها
لاستقبال الثورة العربية الكبرى طامحة لأن يكون للعرب دولة تحمي حفوفهم وتصون
مستقبلهم، وهم يرون أن ما تحقق هم جزء منه ومشاركون فيه، لكنهم اليوم مندهشون كيف
صارت تسرق احلامهم جحافل المسترزقين على هوامش التاريخ!
ليست
معان اليوم سوى مدينة تنام على جراحها لكنها تزداد ألقا بانتمائها لأعماق التاريخ
الذي تشكل مع المسافرين على طريق الحج إلى مكة موئل اللقاء الأول، ومهوى الأفئدة،
وما زالت تحمل في ثنايا وجعها إصرارا على البقاء والتقدم والانتماء رغم ما تواجهه
في زمن الحر والظمأ.
سيبقى
الجنوب ملاذا لشوق ينادينا نحو صحرائنا الأولى لعلنا نجد ما يطفئ العطش الساكن في
ضلوعنا يوم التقى آدم وحواء على جبل قاحل في مكة.