الصدى في وسائل الاعلام

البتراء عنوان الذات الحضارية في التواصل مع العالم بندية (2-2)
الرأي / الخميس 24/6/1999
  ياسر أبو هلاله

 

ألغى كاتب مشهور الاردن كياناً وتاريخا، وبحكم معرفته الوثيقة بكل العلوم ومنها التاريخ، رفض ان تكون ارض الاردن ضمت حضارة من الحضارات البشرية عبر التاريخ. بيد ان الرد على مثل هذه الادعاءات العنصرية الاستعلائية لا يكون بالشتم المتبادل، وانما بإحياء الدور الحضاري للاردن عبر التاريخ والتعريف به من خلال البحوث والحفريات لا الشعارات والتصريحات.

" بيت الانباط" الهيئة العربية للتواصل الحضاري مؤسسة مجتمع مدني لم تخرج من رحم البيروقراطية الحكومية وانما جاءت استجابة لارادة مجموعة من الشباب المثقفين في المنطقة الحريصين على تحقيق الذات الحضارية لمجتمعهم وامتهم.

وجاء مؤتمر دراسات الانباط الذي انعقد على مدى ثلاثة ايام في وادي موسى وشارك فيه باحثون من 22 بلداً عربيا واجنبيا حصيلة للتعاون بين " بيت الانباط" وجامعة مؤتة ومجلس تنظيم اقليم البتراء ومركز الاردن الجديد للدراسات.

وتفاوتت مستويات الاوراق المقدمة "اكثر من 60 " جودة ورداءة ولكنها شكلت بداية لها ما بعدها للتعريف بالانباط " جذر الاردن".

وبدا من خلال الاوراق مدى تقصيرنا في التعرف على ذاتنا فالانباط حسب ما يقول رئيس بيت الانباط باسم الطويسي هم الذين ورثوا مجد الاسكندر المقدوني عندما هزموا ابناءه. فيما يرى عالم الاثار الدكتور زيدون المحيسن ان حضارتهم كانت " أول حضارة عربية في التاريخ" تجسدت في " دولة ومؤسسات وجيش وكيان سياسي وزراعة وتجارة وكتابة ونقود".

وهؤلاء الانباط كانوا يضعون صورة ملكهم وملكتهم على النقود التي كان يكتب عليها" الملك الذي يحب شعبه" وقد عثر على نقود نبطية في ايطاليا الأمر الذي يوضح مدى اتساع تجارتهم. وهم جمعوا بين العلم والتجارة فجعلوا اله "الكتبى" اله التجارة والكتابة معا. وتعود أصول الكتابة العربية الحالية الى الحرف النبطي.

وفي الزراعة ابتكر نظم ري متقدمة في منطقة قاحلة شبه صحراوية اضافة الى اتقان الفلاحة.

اما النفوذ العسكري فقد جعل تجلى في عهد ابرز ملوكهم الحارث الثالث الذي دخل دمشق سنة 85 قبل الميلاد بناء على طلب اهلها وانتصر بعدها بسنة على الرومان في موقعه قرب يافا انتهت بمصرع القائد الروماني انطيوخوس الثاني عشر. وكانت دولة الانباط تمتد حسب الباحث العراقي محمود رضا الى دمشق واطراف نهر الفرات والاقسام الجنوبية من فلسطين وايدوم ومدين الى جوف في بلاد اليمن.

لكن ابرز ابداع الانباط يتجسد في فن النحت البادي في البتراء والحجر" مدائن صالح" شمال الجزيرة العربية. ويقول الدكتور زيدون المحيسن ان البتراء لو كانت معروفة عندما عددوا عجائب الدنيا السبع لضمت اليها. موضحا ان اصعب الفنون هو النحت فالعمارة بامكانك الاعادة اذا اخطأت حتى لو بنيت هرما لكان النحت لا مجال للخطأ فيه.

ويرى المحيسن الذي يرأس مجلس تنظيم اقليم البتراء ان ما اكتشف من كنوز المدينة الوردية لا يتعدى 15 في المئة.

وينفي بصورة قطعية وجود اثار يهودية في البتراء ويشير الى اخطاء متداولة في نسبة بعض اثارها الى الرومان مثل المدرج مؤكدا انها "اثار عربية صرفة" مع اعترافه بتأثر وتأثير الانباط بالحضارات الاخرى .

هذه بعض ملامح الذات الحضارية النبطية والتي تشكل " جذر الاردن" الضارب في اعماق التاريخ، واحياء الذات والعودة اليها ضرورة لأي مجتمع بشري، ولكنها تزداد ضرورة في ظل العولمة الزاحفة والتي لا تصمد امامها مجتمعات هشة لا حضارات لها.

صحيح أن الإسلام هو الفضاء الحضاري للعرب لكن ذلك لا يعني التراكم الحضاري الذي سبقه وسر الحضارة العربية الإسلامية تمثل في كونها بنت على إنجازات الحضارات السالفة واعترفت بالآخر على رغم الصراع والتنافس الشديدين.