الصدى في وسائل الاعلام

بترا .. البيضا وليلتان
الرأي/ الجمعة 7 أيلول 2001
  (على هامش مؤتمر التاريخ الاجتماعي للبتراء وجوارها)

عمر شبانة

 

في الرحلة الى البتراء، تكتشف روح الأجداد العالية، وأجسادهم العملاقة المحنطة منذ آلاف السنوات. وحين تكمل رحلتك، وتحط بك سيارة محمود الطويسي في" البيضا"، بعد رحلة عذاب في "الرمول"، وتستقبلك نار الكوانين، ورائحة القهوة الممتزجة بروائح الطبيعة التي تبدو كما لو ولدت تلك اللحظة، فانك ستنسى مشاق السفر ورداءة الطرقات، إذ يستغرقك ذلك الفضاء السماوي المزنر بالصخور الضخمة، الصخور التي تبدو للناظر اليها كجثث محنطة، فيما الاشجار تطل من شقوق الصخر، والقمر المكتمل بدراً يظلل الساحة بدفقات من انواره الدافئة، والفوانيس البدائية المختفية في احضان الصخر ترسل اضواءها الصخرية، بوهجها الرومانسي الحميم... الذي يدعوك لتخلع ثوب السائح، ولتندمج في هذا التراب والصخر والشجر والهواء.

نكتشف في البيضاء، اننا لا نعرف بلدنا، لا نعرف اسرارها ودهاليزها مثلما ينبغي، لا نعرف همومها ومعاناتها، لا نعرف سوى شكلها الخارجي، مظاهرها وسطوحها، او مثلما يعرفها السائح بقيمتها الاثرية، لا نعرف قيمة المخبوء المهمش فيها.

لا يعرف البلد سوى بسطاء اهلها.

اما علية القوم ، المسؤولون، الاثرياء، من يملكون إمكان تغيير أحوال كثيرة بقوة المال الذي لا نعرف (!) فيما يستثمرونه، فلا يعلمون عما يجري في " قاع البلد" لان لهم " بلدهم / عالمهم" الذي يعيشون فيه بسلام وأمان بعيداً عن هموم رعاع القوم وأوجاعهم. ما لهم ولهؤلاء!

 

اكتشفت في زيارة البتراء والبيضاء، التي وفرها لنا"بيت الانباط" / الهيئة العربية للتواصل الحضاري، عبر حضور مؤتمر " التاريخ الاجتماعي للبتراء وجوارها: التغير والاستمرارية"، وليست هذه زيارتي الأولى الى البتراء، لكنها الأهم والأجمل، فاكتشفت: كم هي المدينة الوردية ثروة وطنية، يمكن لها- لو أراد اصحاب الشأن- ان تعادل أي ثروة نفطية، او سواها من الثروات التي تستحق العناية، ليس من اجل استغلالها سياحيا وحسب، بل للحفاظ عليها بوصفها أحد الملامح البارزة لشخصية هذا البلد.

كان المؤتمر رصيناً وهادفاً، سواء على مستوى الباحثين والابحاث (في الغالبية طبعاً)، او على صعيد الحضور والمناقشات التي كانت تجري في جو من الجدية، وعلى درجة عالية من الاهتمام، وهو ما لا نجده في كثير من المؤتمرات التي تنعقد لمجرد الانعقاد. فقد بدا منذ البداية، مدى إحساس القائمين على المؤتمر ومنظميه بالمسؤولية تجاه مؤتمر علمي هو الأول من نوعه الذي يتناول البتراء على هذا النحو الذي جرى، كما لحظنا مستوى الاهتمام بدور الاعلام في تسليط الضوء على تاريخ هذه المنطقة من الاردن، وعلى اهميتها وابعاد هذه الاهمية، وعلى قضاياها وهمومها وإشكالياتها.

سلط المشاركون الضوء، عبر الأبحاث والمناقشات، على تاريخ البتراء وجوارها من جوانب اجتماعية وسياسية واقتصادية، في الماضي القريب والبعيد كما في الراهن، وألقوا نظرات ثاقبة على مستقبل المنطقة وما ينبغي القيام به لتطويرها. ففي حين عاد الباحث والأكاديمي د. حمزة المحاسنة الى قراءة " الاستيطان البشري في اقليم البتراء في عصور ما قبل التاريخ"، وتناولت د. خيرية عمرو موضوع           " الانسان والأرض في وادي موسى عبر العصور"، وركز د. خلف الطراونة على ان" النقود مصدر مهم لدراسة تاريخ الانباط"، قدمت الباحثة ندى الروابدة قراءة لـ"ملامح اقتصادية نبطية من خلال تحليل كيميائي لمجموعة نقود نبطية"، وكتب    د. محمد الطراونة بحثاً عن" ميشع والاسرائيليون واندماج المؤابيين بالانباط"، وانتقل بنا مهند مبيضين فقدم" وادي موسى وجوارها في كتب الرحلات والبلدان الاسلامية"، لكن البعض اختار المرحلة التاريخية الحديثة من تاريخ البتراء وجوارها، فقدم د. محمد المعاني" ملاحظات حول التغير الاجتماعي في لواء البتراء"، وقدمت الباحثة مرام الفريحات "مدخل الى دراسة التغير الاجتماعي في بيئة متحولة: حالة وادي موسى"، بل ذهب د. حسين المحادين الى دراسة "الاستمرارية والتغير في استثمار ميزانية الوقت لدى الأسرة الاردنية: دراسة سوسيولوجية جيلية- مدينة وادي موسى انموذجاً"، وتحدث الباحث والشاعر مصطفى الخشمان عن " دور التراث الشعبي في التنمية السياحية في اقليم البتراء"، ومن الناحية المعمارية قدم المهندس بدر الحسنات "رؤية معمارية: الجذور التراثية المعمارية في مدينة وادي موسى كأساس في العمارة الحديثة"....الخ.

بهذه الإضاءات، وسواها، وضع المؤتمر حجراً أساسا لمشاريع وورشات عمل يمكن ان تتفرع عنه، وتدخل في مزيد من التعمق في جوانب أثارها المؤتمرون هنا على نحو أولي، او في صورة " مدخل الى..." او "ملاحظات حول....". وما ينطبق على البتراء التي وجدت من يبادر ويقيم مؤتمرا لدراستها، يمكن ان ينطبق على مدن قديمة اخرى، وخصوصاً على عمان التي لم تحظ- حتى الآن- بما تستحق من دراسات لتاريخها القديم وحتى المعاصر.

وعلى صعيد التنظيم والمتابعة، كان باسم الطويسي غاية في الجدية، وعلى قدر من الاهتمام بشؤون المؤتمر وتفاصيله، وهو ما يتطلبه نجاح أي فعالية علمية كهذه. وقد تميزا بتواضع مكن لهما التعامل مع مستويات ونماذج مختلفة من المشاركين، والضيوف عموماً، مما لا يقدر عليه كثيرون من المشرفين على ندوات كهذه.

ليلتان

كان اليوم الأول من المؤتمر مرهقاً، خرجنا من عمان في الصباح الباكر، وبعد تأخير تسبب به صديقنا صاحب قصص" الدواج"، وصلنا فندق قلعة النبطي الموفنبيك، حيث يقام المؤتمر، في الثانية عشرة/ موعد الافتتاح تماماً، وبعد الافتتاح مباشرة بدأت جلسات المؤتمر، الندوات والمناقشات واستمرت حتى ما بعد السادسة مساء بقليل. فكان لا بد من استراحة طويلة، لكن الاستراحة لم تكن كافية، غير ان ما تبعها كان قادراً على ان يجعلنا ننسى ليس تعب اليوم وحسب، بل تعب- وقرف وضجر ورتابة- أيام وشهور ربما.

في الثامنة انطلقنا من فندق (بترا إن)، وقيل إننا ذاهبون الى"البيضا"، وما أدراك ما البيضا!

بعد رحلة شاقة في طرقات صاعدة وملتوية ومحفَّرة، كما هي الكثير من الطرق المؤدية الى مواقع   سياحية، وبعد مناورات السائق الماهر(محمود الطويسي) للهروب من (التغريز في الرمول)، فاجأنا المنظر المدهش لمخيم البيضا.

كنت تخليت مخيماً أشبه بمخيمات اللاجئين، لكن خيالي كان خاطئاً، فالمخيم هو خيمة عربية مستطيلة وكبيرة، يمتد فيه الفراش العربي والطاولات المنخفضة، وتقع بين مجموعة من الصخور الضخمة التي تخيلت- ولعل الخيال أسعفني هذه المرة- أنها أجساد أجدادنا الغابرين- الحاضرين منذ آلاف السنين.

كانت ليلة من ليالي العمر، بدءاً من الجو التاريخي الذي يهيمن على الزائر، ممسكاً بتلابيب روحه، مروراً بالعلاقات الحميمة التي سرعان ما تقوم بين البشر، وانتهاء بطقس تقديم العشاء (المشاوي) على الطريقة العربية، وروائح البخور التي انتهت بها سهرة كان يمكن ان تمتد حتى الصباح، لو أنها كانت في قرية لبنانية او سورية كما اتفقنا محمد كعوش وأنا وآخرون!

ولم تكن الليلة الثانية اقل جمالاً.

كانت ليلة لبرنامج" البتراء ليلاً: Petra By Night " الذي بدأ في الثامنة مساءً أيضا، حيث يفاجأ الزائر لمدينة الحجر الوردي، ومنذ اجتيازه بوابة الزوار، بأضواء خافتة على يساره وهو يتجه الى " السيق".

قبيل وصوله تغدو الأضواء على الجانبين. وتستمر الأضواء طوال الطريق- السيق- الى الخزنة.

تحاول معرفة مصدر الضوء، تقترب منه، فترى كيساً من الورق فيه كمية من الرمل، وقد زرعت فيه شمعة مضاءة، وهي تجعل الكيس الورقي مضيئاً.

ويمتد السيق طويلاً وجميلاً وعذباً.

تمتد الحالة الرومانسية، حالة عشق المكان الذي زرته لا اقل من عشر مرات.

تنسى التعب- الشدَّ- في عضلات الساق اليسرى وتمشي.

ثم فجأة.... تظهر مئات الأضواء موزعة في إيقاع ضوئي خرافي وساحر... وصوت شبّابة (ناي) يملأ الفضاء شجناً، ثم لا يلبث ان يختفي لتحل محله أغنية ل تدوم طويلاً.

إنها ساحة الخزنة. خزنة فرعون التي تعرفها جيداً.

صخور من كل الجهات، عدا الجهة اليسرى المفتوحة على أفق ضيق. صخور وأضواء تلقي بظلالها على أجساد ضخمة لأجداد محنطين.

الصخور الأجساد الهائلة، والأضواء الأرواح التي تسكنها وتنعشها.

ضوء القمر بدراً.

وصمت كأنه الموسيقى التي تملأ الفضاء- المسرح الصامت.

وتصمت تماماً. بل تواصل تعميق صمتك الذي بدأ منذ دخولك بوابة الزوار.

صمت لا يكسره سوى محاضرة دليل سياحي كهل، استمتعنا في بداية حديثة، حين تحدث باللغة الإنجليزية- بلكنة إنجليزية حادة- ثم مللنا حين طالت محاضرته، وتمنينا لو ينهي، لان الصمت العميق الجميل لم يكن يحتمل كل تلك المحاضرة عن تاريخ البتراء ، وقد كان عليه ان يتنبه الى تململ الأجانب وتسللهم خارج الحلقة!!

  وأخيراً

و.... فجأة اكتشفت ان لي أقارب هنا/ هنالك، وان عائلتين من عائلات قريتي، قرية أبي وأجدادي(حتا)، تربطهم بوادي موسى علاقات قرابة شديدة، وان أشخاصا من عشيرة الطويسي هاجروا الى فلسطين في وقت مبكر من هذا القرن!

ما اشد ترابط البشر، وما اشد قدرتهم على البحث عما يفرقهم، والتشبث به!!