الصدى في وسائل الاعلام

البترا عاصمة للثقافة العربية
د.عصام سليمان الموسى

 البترا، المدينة الوردية، التي خلدها الشاعر البريطاني دين بيرغون بقصيدته المشهورة التي مطلعها: "تبدو وكأنها ليست من صنع يد خلاقة لإنسان"، ها هي أخيراً تنال الاعتراف الذي تستحقه. كان ذلك في المؤتمر الذي نظمه بيت الأنباط بالتعاون مع سلطة إقليم البترا الذي عُقد على مدار يومين حافلين منتصف شباط 2010 في فندق الكراون بلازا في البترا.
 في هذا المؤتمر أوصى المشاركون للإعداد لجعل البترا عاصمة للثقافة العربية. هذه التوصية تمثل نقلة نوعية في النظرة للبترا، ليس بوصف هذه المدينة مجرد منتج أثري سياحي فريد من نوعه، وإنما بوصفها مركزاً ثقافياً رائداً في الحضارة العربية، عمل على تطوير الخط العربي، مقدماً بذلك واحدة من أهم إنجازات الثقافة العربية.
 لقد طور الأنباط الحرف العربي الذي نستخدمه اليوم في الكتابة. وحرف الضاد هو رمز هويتنا الثقافية المميز، الذي نعتز به ونفاخر. هذا الحرف اعتُمد للكتابة لا في الثقافة العربية وحدها، بل من خمس عشرة ثقافة أخرى في العالم. جميع هذه الثقافات، في مرحلة من تاريخها، وبعضها ما يزال حتى يومنا هذا، دونوا تاريخهم وإبداعاتهم الفكرية بهذا الحرف الجميل. وبذا، يخرج الحرف العربي عن إطاره المحلي إلى العالمية. وهذا الحدث، بموجب النظرية الاتصالية وتاريخ الإنسان الاتصالي، يعد إنجازاً بالغ العظمة، وينم تطويره عن ثقافة رائدة.
 بهذه التوصية التي أقرها المؤتمر، حقق بيت الأنباط استحقاقاً طال انتظاره عقداً من الزمن، طرق خلاله أبواب المسؤولين، مدافعاً عما توصل إليه، ودعمه بالعلم والبرهان، دون استجابة تشفي الغليل.
 المراكز التي تطورت فيها أدوات اتصال، كالأبجدية أو البردي أو الورق أو المطبعة، وحديثاً الحاسوب والأقمار الاصطناعية، مراكز مؤثرة في تطوير الثقافة الإنسانية عبر العصور. وقد وصف باحث مرموق، هو هارولد إنيس (Harold Innis)، هذه المراكز بأنها تحتل مكانة "إمبراطورية" في تاريخ الحياة، كيف لا وهي التي تركت أثراً كبيراً في العقل البشري وتطور حضارة الإنسان.
 من دون تطوير أدوات الاتصال هذه، بدءاً بالأبجدية، ما كان لحضارة الإنسان أن تزدهر، ولبقي الإنسان غارقاً في شفويته وجهله. ولولا الأبجدية لما وصلت إلينا إبداعات سقراط وابن سينا والفارابي وعمر بن أبي ربيعة والمتنبي، تربطنا بماضينا كأنها كُتبت أمس. ولولا الورق والمطبعة ما تيسر لنا كتاب بسعر زهيد.
 لقد تسارعت، منذ اختراع الكهرباء، وتيرة تطوير أدوات الاتصال بدءاً بالتلغراف (1835) والراديو والتلفاز وانتهاء بالكمبيوتر والأقمار الصناعية والهاتف المحمول. وغرق الناس في منجزات الحاضر، ونسوا أن هناك تاريخاً للاتصال متراكماً. وللتذكير: فقد حدد علماء الاتصال أربع ثورات ميزت تاريخ التواصل الإنساني: ثورة الأبجدية، ثورة المطبعة، الثورة الإلكترونية، وأخيراً الثورة الرقمية التي نعيش في ظلالها الآن. ينسى الناس أن تطوير الأبجدية، كتكنولوجيا اتصالية مهمة -بحسب تعبير مارشال ماكلوهان- قد استغرق آلاف السنين، فلذا هو الأغلى والأهم، ذلك أن هذا الابتكار، أسهم في نقل الإنسان وتطوير حضارته ومهد لتطوير أدوات الاتصال اللاحقة.
 بعد صدور كتابي "العرب وثورة الاتصال الأولى" العام 1999، نشرت خلاصة ما توصلت إليه في الكتاب، في دورية علوم الاتصال الكندية (Canadian Journal of Communication) باللغة الإنجليزية، لإيماني بأن ما يُنشر في العربية لا يكفي لإيضاح وجهة نظرنا نحن العرب في عالم ينتقص من إنجازاتنا باستمرار.
 وقد عالجت مكانة البترا، بالاستعانة بالنظرية التاريخية النقدية للاتصال، وأثبتُّ بالبرهان والحجج العلمية أن البترا مركز ثقافي رئيس. استندت في ذلك إلى مراجعة وافية لتاريخ الأنباط وتراثهم ونقوشهم، وما توصل له العلماء الذين بحثوا في منجزاتهم. ووضعت ذلك في دراسة انكببت عليها مدة عام كامل (1996-1997) قضيته في تفرغ علمي من جامعة اليرموك مبعوثاً من مؤسسة فولبرايت العلمية. قضيت ذلك العام دارساً باحثاً في جامعة أميركية، هي جامعة واشنطن الرسمية، في مدينة بولمان، وراجعت مئات الدراسات، واتصلت بعدد من الباحثين. وتوصلت نتيجة البحث إلى أن البترا مركز حقه مغموط، لأنه لم يبرز كمركز ثقافي. في هذا المركز تتطورت الأبجدية العربية إلى الشكل الذي نكتب فيه لغتنا العربية. بل دهشت أكثر حين تبين لي أن هذا الحرف قد تبنته خمس عشر ثقافة أخرى كتبت به تراثها وأدبها، كالفرس والأتراك والبوسنيين، حتى إن العبرية كتبت به في مرحلة من مراحلها. وهكذا يصبح الحرف العربي حرفاً عالمي الانتشار، تماماً مثل ابن عمه الحرف اللاتيني الذي انتشر في الغرب من بلاد اليونان.
 هذان الحرفان، العربي واللاتيني، نبعا من أصل واحد، هو الفينيقي المتحدر عن الكنعاني-السينائي. وبهذا حقق أجدادنا ثورة عالمية علمية في المعرفة والاتصال، لأنهم مكّنوا الإنسان، القديم والحديث، من استخدام أبجدية شعبية سهلة، عكس الأبجدية البرجوازية، التي طورها السومريون والمصريون القدماء، التي كانت حكراً على طبقة محدودة. ولأن الكتابة كانت معقدة تعتمد على الرسم والتصوير، وبحكم طبيعتها، مارست هذه الطبقة احتكار الكتابة، ومن خلال ذلك مارست سلطة المعرفة على بقية الطبقات. ومنذ ذلك اليوم الذي طُورت فيه الأبجدية المعاصرة، بدأ التاريخ الحقيقي للإنسان على هذه الأرض، لأنه دوّن منجزاته وكتبها وحفظها، لا في الصدور والذاكرة كما كان الوضع قبل الأبجدية، بل على أدوات الاتصال الأخرى القابلة للحفظ كالجلد والورق، والحاسوب حديثاً، التي ورثها الأبناء عن الآباء، فأصبح البناء الحضاري التراكمي سنّة من سنن الحضارة الحديثة.
 بعد أن نشرت ما توصلت إليه في مجلة علمية للاتصال، وفي كتاب مستقل بشروح وافية باللغة العربية، حملت الفكرة فرحاً باكتشافي إلى عدد من الوزراء والأمناء العامّين، في وزارة السياحة تحديداً، وتحدثت عنها في التلفاز، وكتبت عنها في الصحف، وناقشتها في المؤتمرات ذات الصلة بالثقافة والسياحة. كان رد "السياحة" حول طبع الكتاب غير مشجع، فتحولت إلى وزارة الثقافة التي وافقت على دعم طبع الكتاب بالعربية. قابلت بعدها وزير سياحة، فـ"تملص" بطريقة دبلوماسية، ثم قابلت أميناُ عاماً للسياحة فقال إن الفكرة صعبة على الفهم. كان يقيني وما يزال أن تقديم البترا كمركز ثقافي سيزيد من تثقيف السائح بتراثنا وإنجازاتنا التي نسيها الناس، ويزيد احترامه لنا، كما سيكون عاملَ جذب إضافياً لسائحين من تلك الثقافات الخمس عشرة التي كتبت بالحرف العربي، أو تلك التي ما تزال تكتب به حتى يومنا هذا.
 وفي مرة يتيمة تفاءلت؛ سمعني وزير السياحة وأنا في مقابلة مع د.لانا مامكغ في برنامجها الصباحي أتحدث عن موضوعي المفضّل هذا، فاتصل بها هو -أو سكرتيرته بناء على طلبه- من المطار، حيث كان يستعد للسفر في مهمة رسمية في الخارج، وحصلوا منها على هاتفي. هاتفتني السكرتيرة مباشرة بعد اللقاء، ونقلت لي إعجاب الوزير بالمقابلة وما ورد فيها، وقالت إنها بناء على طلبه ستعدّ لي موعداً للقائه والاجتماع به بعد عودته من السفر. كان ذلك منذ عامين تقريباً، عشية إعلان البترا إحدى عجائب الدنيا السبع. وها مر عامان تقريباً منذ ذلك الحديث الهاتفي، وأنا ما أزال بانتظار مقابلة الوزير.
 ما طلبته أمر في غاية البساطة: الاعتراف بدور الأنباط الثقافي، والترويج للبترا كعاصمة ثقافية، تجلب المزيد من السياح. كان هدفي فقط هو إعلاء شأن البترا، ووضعها على خريطة العالم الاتصالي كعاصمة ثقافية، إلى أن يثبت العكس. لكن أساطين السياحة في وطني رأوا أن يصمّوا أذانهم.
 لذلك، فإن التوصية التي اجترحها مؤتمر مستقبل التنمية السياحية في إقليم البترا، وهي توصية صدرت عن مؤتمر علمي ضم نخبة من الباحثين الأردنيين الذين يعشقون البترا، وقضوا السنوات الطوال في درس مجدها المتجدد، وأفضل الطرق للحفاظ عليها، تعطي البترا -أو الرقيم كما أسماها أصحابها- حقها الذي تستأهله عن جدارة، وترقى بها مركزاً ثقافياً نفاخر به ونعتز.
 إن وضع رداء الثقافة على البترا يزيد من مهابتها، لا في ثقافتنا فحسب، وإنما في نظر السائح الأجنبي، حين يكتشف أن الحرف اللاتيني، مثل الحرف العربي، نبع من مصدر واحد، هو الكنعاني السينائي، وأننا بذلك علّمنا الإنسان الغربي القراءة والكتابة بأبجدية سهلة، وأن لنا فضلاً ثقافياً عليهم لا يمحي. وبذا نرد على كثير من حملات ظالمة تطعن في ثقافتنا ومجدنا التليد. فهل سيأتي اليوم الذي تصبح فيه البترا عاصمة دائمة، ومحجاً أبدياً للثقافة العربية؟.