البتراء: عاصمة الأبجدية العربية
في الثورة الأولى للاتصال والمعلوماتية
أ.د. عصام سليمان الموسى
جامعة الشرق الأوسط للدراسات العليا
كلية الإعلام-عمان
ملخص
حقق اختراع الأبجدية قبل 3500 عام الثورة الأولى في (الاتصال والمعلوماتية). وتعتبر هذه الثورة حدا فاصلا في التاريخ الإنساني، لأن الحضارة المعاصرة هي وليدة الكلمة التي بدأت مع اختراع الأبجدية، التي هي تكنولوجيا اتصال بحد ذاتها. وبهذه التكنولوجيا سجل الإنسان، بالحرفين العربي واللاتيني،
تاريخ حضارته وإنجازاته.
لقد اخترع هذه الأبجدية الكنعانيون القدماء من سكان سيناء. وهي تعرف أحيانا باسم السينائية الأولى
Proto-Sinatic
وأحيانا باسم الكنعانية الأولى
Proto-Cannanite
. هذا الإنجاز الاتصالي الرفيع
جاء في أعقاب محاولات عديدة لتطوير طريقة سهلة للكتابة، بدأت قبلا على أيدي سومريي العراق منذ ستة آلاف سنة، وتلاهم المصريون القدماء الذين طوروا الهيروغليفية. هاتان المحاولتان لم تنجحا في إيجاد أبجدية شعبية سهلة الانتشار بين عامة الناس. لكن فضل تطوير أبجدية شعبية سهلة بقيت قيد الاستخدام حتى الآن يرجع للكنعانيين في صحراء سيناء، الذين أوجدوا الأبجدية الالفبائبة بحرفيها: العربي واللاتيني.
من الكنعانية السينائية تحدّرت الأبجدية الفينيقية التي استخدمها قدماء اللبنانيون، وانبثق منها
أبجديتان:
الأولى، صدّّرها الفينيقيون الى أوروبا عن طريق اليونان وتطورت مع الزمن الى الحرف اللاتيني
Latin alphabet
؛ والثانية، استخدمت في بلاد الهلال الخصيب
وعرفت بالآرامية. وفي المراجع، تحدّر من الخط الآرامي عدة خطوط أبجدية، من أهمها السريانية والنبطية. ويعتقد معظم الباحثين أن الخط العربي الحديث يتحدر من الحرف النبطي، وقلة تقول أنه تحدّر من السرياني.
وفي الدراسة الحالية، سيتم الاستعانة (بالنظرية التاريخية النقدية في الاتصال والإعلام) لترجيح وجهة النظر التي تقول بأن الخط العربي الأبجدي قد نشأ في جنوب الأردن، على يد الأنباط العرب. ومعروف أن الأنباط أسسوا أول مملكة عربية في التاريخ الحديث، واتخذوا من البتراء المنحوتة بالصخر عاصمة لهم. وبذا يصبح الأردن مهد أهم إنجاز قدم على طبق من ذهب للأمة العربية، أمة الضاد،
ولأمم
أخرى، إسلامية وغير إسلامية،
استعارت الحرف العربي وكتبت به. وبهذا البرهان، تصبح البتراء عاصمة ثقافية موازية ومساوية لبلاد الفينيقيين ولبلاد اليونان: هذه المراكز
الثلاثة التي انتشرت منها أبجدية الألفباء
(the Alphabet)
، سواء بصورة الحرف اللاتيني- المأخوذ عن الفينيقيين من أصول كنعانية – أو بصورة الحرف العربي النبطي
-
المأخوذ
أيضا عن الفينيقيين من أصول كنعانية. وقد انتشر الحرف النبطي بعد أن تبناه الإسلام وكتبت به لغات أمم أخرى في بلاد عدة منها إيران وتركيا والباكستان والبوسنة،
كما كتب به الحرف العبري في مرحلة ما،إضافة إلى أمم وشعوب أخرى لا يقل مجموعها
عن خمسة عشر.
تمهيد
شهد
التاريخ الإنساني، من
وجهة
نظر
علماء
الاتصال، ثورات للمعلوماتية (
Stephens: 9-12
) أحدثت تغييرات جسام في حياة البشر،
وأغدقت على مبدعي تلك الثورات قوة مضافة مكنتهم من التفوق والبروز إلى
حين
ظهور
وسيلة
اتصالية
منافسة
.
تمثلت الثورة الأولى، الأهم والأخطر، باختراع الأبجدية - الألفباء - في منتصف الألف الثاني ق.م.
وجاء هذا الاكتشاف المدهش في أعقاب مرحلة طويلة، قاربت الثمانية آلاف عام، استخدم الإنسان خلالها الكلمات التصويرية للتعبير عن الأفكار أو الأشياء.
وتمكن الإنسان حوالي عام 1500 ق.م.، من التوصل
لإيجاد نظام متكامل من الرموز الأبجدية يمثل الصوت الإنساني بمختلف درجاته (أو أصواته) التي ينطق بها الكلمات. وعُرف هذا النظام باسم الأبجدية الصوتية
(Phonetic Alphabet)
. وقد مكّن هذا النظام الإنسان ولأول مرة في حياته الطويلة، من تسجيل أفكاره برموز ذات معنى، سهلة التداول والتعلم والقراءة. وكان هذا الاكتشاف بمثابة الثورة الأولى في المعلوماتية والاتصال التي أرست الأسس التي قامت عليها قواعد المعرفة الموثقة. وتميزت هذه الثورة الكبيرة في تاريخ الإنسانية عن الثورتين اللاحقتين - ثورة الاتصال الجماهيري (الطباعة)، وثورة الاتصال الالكتروني (بدءا بالكهرباء وتوظيف الحاسوب في الرقمنة) - بأنه كان لأجدادنا الساميين - سكان الهلال الخصيب ومصر على وجه التحديد - دور رئيس في انجازها. لقد انتشر الحرف الأبجدي الصوتي،
الذي تكونت ملامحه النهائية على أيدي كنعانيين ومن ثم
الفينيقيين - سكان لبنان السابقين - في جميع بلدان الحضارة الغربية، تمييزاً لها عن الشرق الآسيوي الذي يستخدم نظاماً مختلفاً
للكتابة، كما
في الصين واليابان.
ثورة الاتصال الثانية انبثقت من ألمانيا، وتمثلت باختراع المطبعة في منتصف القرن الخامس عشر مؤذنة ببداية عصر الاتصال الجماهيري. وأتاح اختراع المطبعة الفرصة للمعرفة لتنتشر على نطاق واسع من خلال الكتــب والصحف والمجلات التي توفرت لجميع النــاس، كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، نبيلهم وعبدهم. وكان من ردود فعل هذه الثورة أن خلقت مناخاً مؤاتياً لإيجاد نظام ليبرالي جاء في أعقاب حركات
وثورات إصلاحية عظيمة شهدتها أوروبا، دينية وسياسية واجتماعية وصناعية، نقلت إنسانهم للصفوف الأولى وهيأت له استعمار العالم القديم، وقلبت موازين القوى. وكان من سوء الحظ أن تأخر دخول المطبعة إلى البلاد العربية. ونتيجة لهذا، وغيره، تخلف العرب عن مواكبة النهضة الأوروبية. لكن المعرفة المتزايدة المتنامية التي وفرتها الثورتان، الأولى والثانية، قادت في النهاية، في منتصف القرن العشرين إلى ثورة جديدة، أشد مضاء من سابقتها.
ثورة الاتصال الثالثة، هي الثورة الالكترونية، وقد بدأت مع اختراع التلغراف عام 1835م، وتعمقت باستخدام الراديو كوسيلة اتصال جماهيرية تبث الرموز عبر الأثير إلى جمهور غفير ثم تلاها التلفاز. وتُوجت هذه المرحلة باختراع الحاسوب/ الكمبيوتر في منتصف القرن العشرين، وشيوع استخدامه على أوسع نطاق في أيامنا هذه، فدخلت الالكترونات المصانع والأسلحة والأقمار الصناعية وانتشـرت شبكات المعلومــات، مثـل الانترنـت
(Internet)
، حتى غطّـت العالـم بخطوط اتصـال سريعـة غيـر مرئيــة
(Information Super Highway)
. ومع اختراع التلفاز الرقمي عام 1998م بدأت ثورة رقمية نعيش الآن في أوجها، سمحت بدمج أجهزة الاتصال بعضها ببعض بيسر وسهولة، فصار من الممكن
مثلا نقل صورة ورسالة من الهاتف النقال (الرقمي) الى الحاسوب (الرقمي) الى الأقمار الصناعية الرقمية الى أجهزة الاستقبال أينما وجدت. وأدت الثورة الرقمية إلى نتائج خطيرة قلبت موازين القوة من جديد، وتركت دول المركز، وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية،
والشركات العابرة للقارات، في حالة هيمنة مطلقة. وأطلق على هذه المجتمعات: مجتمعات المعلومات
(Information Societies)
، تمييزاً لها عن المجتمعات الأخرى الأقل شأناً، والأضعف مكانة.
وهكذا، انتقلت أمم الشرق معلوماتيا في غضون ألفي عام أو أقل، من مرحلة العطاء والإبداع والتأثير والسيادة، إلى مرحلة مغايرة تماماً، مرحلة تتصف بالأخذ والتأثر والخضوع. وإذا كانت ثورات المعلوماتية اللاحقة تفصل بينها سنوات قصيرة، بالمقارنة مع مرحلة اكتشاف الأبجدية التي ناهزت الثمانية آلاف عام، فإننا نستطيع أن نتنبأ بان ثورات متتالية للمعلوماتية والاتصال ستتلو.
من هذا المنطلق، تأتي أهمية معرفة دور الاتصال في نشوء الحضارات وسقوطها، ودور الحضارة النبطية في تطوير المعلوماتية ممثلة بالأبجدية التي نكتب بها لغتنا العربية.
مشكلة البحث
اعترف العالم كله، بفضل الفينيقيين، سكان لبنان القدماء، في تطوير الحروف الصوتية، التي انتشرت بين الشعوب والأمم التي تعتمد النظام الأبجدي في معظم أقطار العالم. كما تم الاعتراف ببلاد اليونان كمركز ثقافي استعار الحرف الفينيقي، وطوره، وانتشر من هناك الى جميع بلدان الغرب في أوروبا والأمريكتين.
لكن فضل الأنباط على العرب والأمم
والشعوب الأخرى التي تستخدم الحرف العربي، ما يزال غير واضح في أذهان الناس تماماً، لسبب رئيسي، هو عدم اتفاق الباحثين فيما بينهم على أن مصدر الحرف العربي إنما هو نبطي الأصول والجذور: فغالبية الباحثين ترجح أن الحرف العربي الحديث تحدر من الحرف النبطي، بينما قلة من الباحثين ترى أن الحرف العربي تحدر من الحرف السرياني.
إن عدم الاعتراف بأثر الأنباط الاتصالي هذا، يأخذ بعداً أكبر حين ندرك ان الحرف العربي انتشر على نطـاق واسـع خلال الألف وثلاثمائة عام الماضية، واستخدمته شعوب أخرى لتكتب لغاتها به، كالفرس والأتراك والبربر والأفغانيين والباكستانيين في آسيا وافريقيا، وكذلك في البوسنة وبولندا في أوروبا. ونتيجة لذلك، أصبح الحرف العربي، الحرف الثاني بعد اللاتيني في عدد الشعوب التي استخدمته. فالحرف اللاتيني تحدر مثل الحرف النبطي العربي، من أصل واحد، هو الأصل الفينيقي. وانتشر الأول في أوروبا والعالم الجديد عبر اليونان والإمبراطورية الرومانية والكنيسة المسيحية. أما الثاني، فقد انتشر في المشرق العربي، وعنه أخذته أمم عدة، خاصة بعد انتشار الإسلام ورسالته السماوية.
وقد أثر هذا الموقف على علماء الاتصال، فنجد مثلاً باحثاً مرموقاً، مثل هارولد انيس الذي يعترف "بالعبقرية التجارية لشعوب سوريا وفلسطين" ، وفضلهم في تطوير الأبجدية(
Innis, p. 55
). لكنه يتجاهل كلية الحرف النبطي، هذا الحرف الذي سبق الحرف الغربي، والذي تم استخدامه قبل مولد السيد المسيح بحوالي مائتي عام. إلا
أن باحثاً آخر هو روبرت لوجان يعترف في كتابه (تأثير الأبجدية)،
بأن الحرف النبطي هو الحرف "الذي سبق الحرف العربي التقليدي"، ولكن هذا الاعتراف يبدو خافت النبرة، ولا يخلو من تشويه:
"لقد استخدم السبأيون [في جنوب الجزيرة] حرفاً أبجدياً، غير أنه لم يُقدّر له أن يصبح الحرف الذي تحدرت منه الأبجدية العربية. كان هذا الشرف من نصيب الحرف النبطي، الذي تطور عن نظام الأبجدية الآرامية على يد الأنباط الذين عاشوا في منطقة الهلال الخصيب المحاذية للطرف الشمالي من جزيرة العرب. وقد اتصل بدو شمالي الجزيرة بالأنباط من خلال النشاطات التجارية، واستعاروا منهم حرفهم، الذي استخدموه بشكل رئيسي لكتابة المعاملات الاقتصادية في مدنهم القائمة على التجارة. وفي النهاية تطور هذا الحرف إلى الحرف العربي التقليدي الذي كُتب به القرآن الكريم
(Logan:139-140)
.
إن هذا القول تنقصه الدقة، لأنه أظهر مأثرة الأنباط الكبرى وكأنها مسألة لا تعدو ان تكون مجرد استعارة شيء ما بين البدو والتجار. بل ان هذا القول ينطوي على تشويه للحقيقة لأن الأنباط - بالمقارنة مع المجموعات العربية الأخرى التي سكنت سوريا الطبيعية - كانوا الشعب العربي الوحيد الـذي استطاع أن يؤسس دولـة قوية وغنيـة عاشت ما لا يقل عن خمسمائة عام وتركت وراءها تراث البتراء الذي لا مثيل له في أي مكان في العالم القديم. وفوق هذا، استطاع الأنباط ان يؤثروا على الأجيال اللاحقة بما خلفوه من نظام أبجدي طوروه بأنفسهم. والجدير بالذكر، ان الباحث الألماني (ثيودور نولدكه) كان أول من أعلن عام 1865 ان الأنباط هم أصحاب الفضل في ايجاد الحرف العربي
(Bellamy: 99)
.
حين نقارن بين مقولة (لوجان) السابقة الذكر، بمقولة باحث آخر معاصر لا يعترف بدور الاتصال وأثره المركزي في نمو المؤسسات والنظم، نجد فرقاً كبيراً بين رؤية هذين الباحثين. لنتأمل في قول (بيلامي) التالي:
" حين بدأ العرب في وضع أبجديتهم، فإنهم صمموها على شكل الأبجدية الآرامية ... ولو أراد العرب أن يبذلوا الجهد الكافي، فانه كان بإمكانهم اشتقاق أبجديتهم من الحرف العربي (القديم) الجنوبي"
. (ibid: 97)
في الواقع، تكشف هذه المقولة عن عدم التفات هذا الباحث لمفاهيم الاتصال وأثرها في بناء الحضارات. يضاف إلى هذا، ما ذهبت إليه مجموعة صغيرة من الباحثين، عمدت منذ منتصف الستينات، إلى إحياء النظرية القائلة بأن الحرف العربي تحدر من الحرف السرياني، الذي استخدم في حاضرة ملوك الحيرة اللخميين
(Bellamy:99; Healey: 245-5)
. وجدير بالذكر، ان الحرف السرياني هو شقيق للحرف النبطي، وكلاهما تحدر من أصول آرامية- فينيقية.
من الواضح، ان مثل هذه الآراء والأقوال لا تستند إلى رؤية نظرية اتصالية واضحة. وهي، علاوة على ذلك، تحرم الأنباط من فضل هم جديرون به، وأحرزوه عن استحقاق، وذلك بإسهامهم الفذ في تطوير الأبجدية العربية. ان وضع هذا الجهد في إطاره الصحيح يتطلب بالتأكيد إعادة دراسة الانجاز الحضاري النبطي عبر منظور ثقافي-اتصالي، تسعى هذه الدراسة لتحقيقه.
ومن حسن الحظ، ان المؤلفات الضخمة والأبحاث العديدة التي وضعها المؤرخون والانثروبولوجيون وعلماء الآثار واللغة عن الأنباط في السنوات القليلة الماضية، خاصة في النصف الثاني من القرن الحالـي، قد أضافت الكثير إلى معرفتنـا العلمية بالأنباط وتراثهم الحضـاري. ومن الواضح ان هذه المعرفة المتجمعة ستمكننا من إعادة تقييم الأثر الاتصالي الذي خلفه الأنباط، خاصة وان هذا الانجاز الرفيع قد تحقق في مرحلة حاسمة من تاريخ الإنسانية، حين بدأت المجتمعات تنتقل من مرحلة العصر الشفوي إلى مرحلة عصر الكتابة، وذلك بعد مرور ألف عام على قيام ثورة الاتصال والمعلوماتية الأولى، واختراع الأبجدية الصوتية حوالي عام 1500 ق.م.
في ضوء ما تقدم، لا يسع المتأمل في تاريخ حضارتنا العربية، إلا أن يطرح أسئلة حول علاقة هذه الحضارة بالاتصال.
وحيث أن معظم الباحثين يقرّون بأن الحرف العربي قد تحدر من أصول نبطية، بعد أن تطور في مملكة العرب الأولى التي كانت عاصمتها البتراء حوالي (150) ق.م.، ثم تبناه العرب بعد سقوط هذه المملكة وطوروه. وبعد مجيء الدعوة الإسلامية عملوا على تدوين القرآن الكريم بأحرفه، ونشروه في البلاد المفتوحة، واستخدمته أقوام جديدة عديدة كتبت به - فان السؤال الذي يطرح نفسه في مجال هذه الدراسة هو:ما دور الأنباط، ودور مملكتهم العربية،
في تطوير الأبجدية، وسيلة الاتصال التي بقينا نستخدمها حتى الآن في كتابة لغة الضاد؟
أن الإجابة على هذا السؤال قمينة بأن تلقي الضوء على زوايا من تاريخنا القديم الذي لم تكشف تفاصيله بعد.
ومن هنا يبدو لي أنه لا مفر من إعادة النظر في هذا التاريخ في ضوء النظريات الحديثة، لنكشف عن كنوز إسهاماتنا في الحضارة الإنسانية.
الإطار النظري
يحتل الاتصال ووسائله موقعاً رئيساً في إدارة المنظمات
(Organizations)
، سواء كانت هذه المنظمات كبيرة بحجم دولة أو إمبراطورية، أو صغيرة، بحجم شركة أو جمعية. وقد لعب الاتصال دوراً بارزاً في نشوء الحضارة الإنسانية، وفي تنظيم الممالك الشاسعة، ذلك أن الإدارة
(Administration)
، لكي تكون فاعلة، فإنها تعتمد على كفاءة وسائل الاتصال المتوفرة لديها. وخير مثال على ذلك الجيش الذي تتوفر له وسائل الاتصال التي تربطه مع مركز القيادة والأفراد والوحدات المختلفة، فانه قطعا يحقق نجاحا أفضل من خصمه الذي لا يملك تلك الوسائل التي تربط بين أفراده وقيادتهم ووحداتهم.
بعد اختراع وسائل الاتصال، أصبح من الصعوبة بمكان تحديد أهمية وسيلة الاتصال الرئيسية، أو الدور الذي لعبته، في أية حضارة من تلك الحضارات العظيمة، لأن طرق تحديد هذه الأهمية يتأثر غالباً بوسيلة الاتصال نفسها. وهذا كله، يؤدي في النهاية إلى عدم قدرتنا على فهم إنجازات الحضارات الأخرى بسهولة. ومن عجائب القدر أن أوراق البردي تلاشت واندثرت في معظمها، في حين أن ألواح الطين بقيت لنا بالكامل.
وهكذا صرنا نعرف عن الحضارات القديمة (كالسومرية) تفاصيل دقيقة لا نجدها في الحضارات اللاحقة (كالمصرية). ومثل ذلك الحضارة النبطية التي لا نعرف عن ثقافتها إلا القليل.
ومن حسن الحظ، ان علماء اتصال مرموقين، مثل هارولد إنيس
(Harold Innis)
ومارشال ماكلوهان قد بينوا العلاقة بين أدوات الاتصال ووسائله في نشؤ الحضارات وتبوأها مكانة عالية أو سقوطها، مما بساعدنا في استقراء ما خفي عنا، بالقياس،
بشأن حضارات ضاع تراثها واندثر لأسباب غير معروفة لدينا بعد، كما في حضارة الأنباط.
وفي هذا المجال، يرى إنيس
Innis
أن
الاتصال "يحتل مكانة حاسمة في تنظيم وإدارة الحكومات، ومن ثم الإمبراطوريات...". ويضيف إلى ذلك أن "مفاهيم الزمان والمكان تعكس أهمية وسائل الاتصال على الحضارة". ومن رأيه أن وسائل الاتصال التي تواتي الزمن، مثل الرق والفخار أو الطين والحجارة، إنما هي وسائل تتصف "بالديمومة"، وتحبذ نشوء "اللامركزية والأنظمة المؤسسية الهرمية". أما وسائل الاتصال التي تواتي المكان، مثل القرطاس والورق، فهي "أقل ديمومة وتتصف بالخفة". وعليه، فان المنظمات الضخمة، كالإمبراطوريات، يجب تقييمها من بعدي الزمان والمكان، ذلك ان ديمومتها مرهونة بقدرتها على التغلب على
(تحيز الاتصال) الذي قد يرجح كفة بُعد على
الآخر. ويضرب على ذلك مثلا: فحين احتل الرومان مصر مثلاً، توفر لهم الحصول على القرطاس (البردي) الذي أصبح أساساً لإدارة إمبراطورية مترامية الأرجاء، خاصة وقد اقترن استخدامه باستخدام أبجدية مرنة. ويضيف بأن الوسائل التي تؤكـد الزمــان تؤيـد نشوء الإدارة المركزية والأنظمة غير الهرميـة
(pp: 5-8)
. ويضيف إلى ذلك ان مفهوم قيام دولة إمبراطورية - أي دولة منيعة في غاية القوة- مرتبط بالكفاءة الاتصالية
Efficiency of Communication
التي "تعكس إلى حد بعيد كفاءة وسيلة اتصالية معينة وإمكاناتها في إيجاد ظروف مؤاتية للفكر المبدع الخلاق"
؛ وبشأن الورق يتوصل
الباحث إلى أن هذه الأداة الاتصالية تعزز تشكيل "البيروقراطيات الإدارية"، ذلك أن الورق والقرطاس يعتبران من وسائل الاتصال التي تدعم السيطرة على "المكان" لأن الورق يتصف "بالخفة" في إمكان نقله؛ ويضيف أن "الورق بالتحديد مناسب لإدارة مناطق شاسعة، وهو مؤات للتوسع في الأعمال التجارية"، كما انه يؤدي إلى تحقيق مزيد من "المركزية" الإدارية
(ibid)
.
ويشير (مارشال
مكلوهان)
إلى كبر الأثر الذي خلفه اختراع الأبجدية في الثورة الأولى للاتصال. فهو يعتبر أن اختراع الأبجدية الصوتية يعد "تكنولوجيا فريدة من نوعها"، ويضيف: أن استعمالها كان يعني " القوة والسلطة والسيطرة على المواقع العسكرية من بعيد"؛ لكن استخدام الأبجدية مع ورق البردي (وهما أداتان اتصاليتان مهمتان) أدى "إلى إنهاء سيطرة كهنة المعبد وكتٌابه واحتكاراتهم للمعرفة والسلطة"
(Mcluhan: 85-86)
.
ومن منظور اتصالي اقتصادي، يرى باحث آخر، هو (سميث)
، ان إدخال "الكتابة، ان لم يكن هو السبب، فهو الأداة التي حددت التحول النفسي والاجتماعي في جميع المجتمعات التي مارست الكتابة"؛ ويقول مضيفاً ان "الثورة الأولى في وسائل إيصال المعلومات" جلبت معها "تغييرات أساسية للتنظيم الإنساني ومفاهيم النظام الاجتماعي" وأدت "إلى إيجاد تقسيمات جديدة ومهمة للعمل"
(Smith: 7)
.
نخلص من هذا العرض النظري إلى ان تطوير وسائل الاتصال وأدواته كانت أساسية في تحرير الفكر الإنساني، وتقدم النظام الاجتماعي والفكري والسياسي الإنساني، وتطوير إدارة فاعلة. ويمكن أن يستدل المرء على أهمية هذه النتائج إذا ما استعرض بعض آثار المطبعة في الثورة الثانية للاتصال في أوروبا.
إن انتشار الأبجدية على هذا النطاق الواسع كان مؤشراً لأن تصبح الكتابة أداة مرنة تستخدم في إدارة شؤون الحكومات وتصريف الأعمال المختلفة. وحين حلّ القرطاس
(Papyrus)
(ورق البردي) محل الطين والحجارة، صار من الممكن استخدام الحروف الدائرية، أو ذات الزوايا الحادة بوضوح. كما أن استخدام هذا الوسيط (القرطاس) أتاح الفرصة لإيجاد نظام تخزين ملائم لمفرداته، فأصبحت تجمع في مكان صغير نسبياً. وهذا كلـه أدى إلى
أيجاد نظام لتصنيف المعلومات، كما أدى إلى إيجاد المكتبات. ومع وجود المكتبات، صار من الممكن إجراء البحوث والدراسات الجادة.
وكان لاختراع الكتابة أثر آخر، إذ أنه سمح بإيجاد جمهور من القراء بعيد، زماناً ومكاناً، عن الكاتب المؤلف. وقد سمح هذا بإيصال المعرفة لجماعات غير مدربة أصلاً على فهم المعرفة المجردة. ونجحت الكتابة
(Writing)
في تحويل المعرفة
(Knowledge)
إلى معلومات
(Information)
. فمنذ القديم، وإبّان العصر الشفوي الذي سبق عصر الكتابة، حين كان التواصل يحدث مواجهة، لاحظ (سقراط) أن شخصاً معيناً كان يتم اصطفاؤه لتزرع في أعماقه بذور الحكمة، بينما تترك غالبية الناس على حالها تستمتع بالإصغاء إلى أصوات الشجر والهواء. ومع اختراع الكتابة، أشار (سقراط) إلى أنه ما أن يكتب شيء ما، حتى تنساب المادة المكتوبة من مكان إلى آخر، بحيث تقع في أيدي من يفهمها ومن لا يفهمها، ومن لا علاقة له بها أيضاً. وهكذا تعدى تأثير الكتابة النطاق الوجاهي، إذ صارت تصل إلى جمهور مختلف بعيد عن الكاتب الأصلي وبعيد عن سيطرته.
بل إن توفر الوثائق المكتوبة وسّع من إمكانية التأثير والسيطرة على الأنظمة الاجتماعية.
وأتاح هذا فرصة لتوثيق العلاقات بين القطاعات الإنسانية المتباعدة، وخاصة حين انضم السيف إلى القلم، مسهماً في تعزيز السلطة الاجتماعية.
وهكذا أصبحت مهنة الكتابة، أداة مهمة، وكانت وراء إحداث التغيير الاجتماعي والنفسي في كافة المجتمعات التي دخلتها.
ويخلص (سميث) إلى القول أنه يمكن اعتبار الثورة الأولى في وسائل إيصال المعلومات ونقلها، بداية لسلسلة من التغييرات الجذرية في التنظيم الإنساني، وفي مفاهيم التنظيم الاجتماعي. كما أنها أوجدت مهناً مهمة جديدة في تقسيم العمل، مما أدى إلى أيجاد طبقات جديدة، ومهنيين وحرفيين جدد في المجتمع.
وفيما بعد، أصدر (روبرت لوجان)، أحد تلامذة (هارولد إنيس) و (مارشال ماكلوهان)، كتاباً أسماه "تأثير الأبجدية
The Alphabet Effect
".وفي كتابه هذا قارن بين الحضارة الغربية التي اعتمدت الأبجدية الصوتية التي اخترعها الفينيقيون، وبين الحضارة الشرقية، ممثلة بالصيـن، التي اعتمدت نظام الكتابة التصويرية. ومن رأي (لوجان)، وهو أستاذ فيزياء، بأننا نعيش في عصر تقني متسارع التغيير، نشعر فيه بأن مجتمعنا وثقافتنا تُجتث من جذورها. وحين نستعرض تاريخ الحضارة الغربية، فإننا نجد أن الأفكار الأساسية للعلوم والرياضيات والسياسة والقضاء والاقتصاد والتنظيم الاجتماعي والديانـة - مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالأبجدية الصوتية. فسحر الكتابة إذن هو في كونها أكبـر مـن نظام أبجـدي، لأنهـا نسـق لتنظيم المعلومات. فمن بين كافـة الاختراعات التـي جادت بها قريحة الإنسان، فان الكتابة - باستثناء اللغة فقط- كانت الأكثر فائدة وقيمة وغنى. إلا أننا نميل لتجاهل أثرها على أساس أن وجودها صار حقيقة مسلّم بها. لقد أثرت الكتابة في "تطور نماذج تفكيرنا، وفي مؤسساتنا الاجتماعية وفي إحساسنا بذاتنا"، كما أثرت أيضاً في تطوير القوانين، ووحدانية الإله، والعلوم البحتة، والمنطق الاستنباطي، وفي فردية الإنسان. وهذه السمات جميعها من الخصائص الفريدة للفكر الغربي. بل إن ثورة الطباعة كانت حافزاً لقيام عدد من الأحداث التاريخية المهمة في أوروبا، كحركة النهضة، وحركة الإصلاح الديني، والثورة الصناعية، وظهور الديمقراطية، والتعليم لعامة الناس، والقومية، ونشوء الرأسمالية
(pp. 17-19)
.
ويقارن (لوجان) بين الفكر الغربي - الذي نشأ وتطور على اعتماد الأبجدية - والفكر الشرقي الذي تمثله الحروف الصيني
التصويرية
(Characters)
، ويرى أنهما يمثلان طرفي نقيض: فالأبجدية تستخدم الرموز الصوتية لتمثل صوت الكلمة، بينما (الحروف) الصينية تستخدم الرموز التصويرية لتمثل فكرة الكلمة. ومن هنا، فان الحروف التصويرية الصينية أقل قدرة على التجريد من الكتابة الأبجدية. وهكذا، فان الاختلاف في طرق التعبير والاتصال ينجم عنه اختلاف في أنماط التفكير والأشكال الاجتماعية. لذا، فان غياب القدرة التجريدية والتصنيفية التي تفرضها الأبجدية، إنما تنتج عن الاختلاف في نظم الكتابة. ويسارع (لوجان) للاعتراف بأن الحضارة الصينية حضارة متينة لا تقل عن الحضارة الغربية في النمو والشموخ، سواء في مجالات الفنون والتقنية والفلسفة والتفكير الديني، لكنه يرى أن الفكر الصيني أقل قدرة على التجريد، وأكثر مادية من الفكر الغربي
تراث الأنباط الاتصالي
من الواضح أن علماء الاتصال، الذين أشرنا في الصفحات السابقة إلى رؤاهم، استطاعوا أن يكشفوا النقاب عن العلاقة بين الاتصال من جهة، وبين نشوء المؤسسات/ الإمبراطوريات وسقوطها من جهة ثانية. في هذا الصدد يصف (هارولد إنيس) الأثر الذي خلفه اختراع فن الكتابة على الدول والإمبراطوريات التي ظهرت في العالم القديم على النحو التالي
: (Innis:10)
عززت الكتابة بصورة قوية جداً القدرة على التفكير المجرد ... وامتدت نشاطات الإنسان وقواه بصورة متناسبة مع ازدياد استخدام الكتابة والسجلات ... وعزز
البنيان الاجتماعي الممتد من موقع الفرد القائد ومكانته ... وعمل السيف إلى جانب القلم ... وازدادت السيطرة (السلطة) الفعلية لتركزها بأيدي فئة قليلة، وقويت مكانة التخصص الوظيفي ... وفي الأساس، كان إنشاء مملكتي مصر وإيران، والإمبراطورية الرومانية، والدول المستقلة نتيجة من نتائج اختراع الكتابة.
إن ما ورد في هذا القول ينطبق تماماً على دولة الأنباط. وهكذا، حين يقول (إنيس) إن "انتشار الكتابة الآرامية قد سارع في نمو الممالك التجارية في ظل البنيان الملكي الآشوري"
(
ibid: 54
)
، فهو إنما يشير في الواقع إلى فينيقيا والمدن المستقلة الآرامية. أما مملكة الأنباط، فقد ظهرت بشخصية مغايرة تماماً لهذه الدول أو الإمارات التي حققت الغنى عن طريق التجارة فقط، بينما خضعت سياسياً لسيطرة الإمبراطوريات المجاورة. لقد ساعدت التجارة الأنباط، الذي أصروا على التمسك باستقلالهم وحريتهم، على بناء دولة مستقلة عاشت قروناً عديدة، وقامت على قاعدة اقتصادية متنوعة ومتينة. وعلى الرغم من أن الأنباط كانوا شعباً صغيراً. لكن عزيمتهم، وتصميم قيادتهم من موقعهم الاستراتيجي ذاك على التمسك بالريادة، مكنهم من الوقوف على قدم المساواة مع جيرانهم الأقوياء، الذين تجاهلهم الأنباط معظم الأحيان، أو دفعوا لهم نقودا أحياناً أخرى، ليتقوا شر خطرهم وطمعهم
(
Riddle q
outed
in
Lawlor: 50
)
.
إن تتبعنا لأثر الاتصال على حضارة الأنباط، يبين أنه في الوقت الذي أشار ديودوروس الصقلي للأنباط، كانت الآرامية. "لغة التجارة الدولية للمنطقة الممتدة من الهند إلى الحبشة"، كما "كانت اللغة الدولية للدبلوماسية". وبحلول عام 500 ق.م. أصبحت، مع بعض التنويع المحلي، اللغة الدارجة لجميع سكان الهلال الخصيب. بل أن انتصارها على العبرية جعلها "اللغة التي قدم بها السيد المسيح رسالته"
(
Hitti: 105-6
)
. فلا عجب بعد هذا، أن نرى الأنباط يستخدمون الآرامية كأداة اتصال مع انتيغونوس، الذي أخفق في إخضاعهم حوالي عام 311 ق.م. لقد دفعت الضرورات الاقتصادية بهؤلاء البدو، تجار القوافل، أن يتعلموا لغة العلاقات الدولية باكراً في حياتهم السياسية المنظمة، مثبتين بذلك مركزية الاتصال في عملهم وحياتهم.
مع مجيء الإسكندر الكبير في القرن الرابع ق.م.، بدأت الثقافة الهيلينية في الانتشار في منطقة الشرق الأدنى، ونجم عن تأثيرها الثقافي هذا أن حلت اليونانية "محل الآرامية في الاستخدام الرسمي، وفي المجالات الثقافية". غير أن عرب الشرق، الذين كونوا إمارات شبه مستقلة تحت النفوذ الهيلليني، تأثروا بهذه الثقافة، جزئياً، دون أن يخضعوا كلية لنفوذها. وخير مثال على ذلك "الأنباط الذين احتفظوا بقوانينهم التقليدية، وعادات أجدادهم، وطقوسهم السامية، ولغتهم العربية"
(
Shahid, 1984a: 153-9
)
. فوق هذا، فان الأنباط لم يخضعوا مطلقاً لحكم السلوقيين أو البطالسة، أو الرومان مثل بقية عرب الشمال. لقد عاش الأنباط مستقلين في جوار حدود السلطة اليونانية ومن بعدها الرومانية، وكانوا على اتصال بهم، كما كانوا في ذات الوقت على اتصال بالوجود العربي في شبه الجزيرة العربية، وخاصة من خلال التجارة مع الجنوب. ولهذا، ظلوا "محتفظين بهويتهم العربية" أكثر من العرب "الأبعد" سكان الشمال الذين "ضعفت هويتهم" ومنهم الأدوميين
(
ibid
)
. وهكذا، لعب موقعهم الجغرافي الاستراتيجي دوراً مركزياً في تعزيز ثقافتهم بالقيم وباللغة القومية.
استعمل الأنباط الآرامية للتفاهم حتى مع الصفويين "المقيمين "إلى الشمال والجنوب من منطقتهم، إذ لم تكن بين تلك القبائل لغة عربية مشتركة"
(عباس: 42 الهامش
)، كما استخدموا الآرامية لتسيير الأعمال الرسمية والتجارة. لكنهم استعملوا لغتهم العربية ليتفاهموا
بها في حديثهم اليومي
(
Shahid, 1984a: 9
)
. ولقد كشفت النقوش النبطية المنتشرة في منطقة الشرق الأدنى، وحتى في روما نفسها "التي وجدت فيها مستعمرة تجارية نبطية"
(
Healey: 238
)
، أسماء وكلمات عربية. وقد أسهمت هذه النقوش "إسهاماً كبيراً في تجميع قطع تاريخهم المتناثرة هنا وهناك"، وهي في معظمها "نقوش ذات طابع جنائزي، والعديد منها فيه إشادة وافتخار، وبعضها إهدائي أو معماري"
(
Lawlor: 20-22
)
. غير أن الحقيقة التي تبرز من كل ذلك هي أن "هؤلاء الأنباط كانوا يتحدثون بالعربية في حياتهم الاعتيادية"، وهذه مسألة تتضح بشكل بيّن بسبب "وجود العديد من الكلمات والأشكال العربية البارزة في آراميتهم التي كتبوا بها نقوشهم"
(
Healey: 246
)
. بل أن (هاموند) يرى أن "ما يقارب 90% من جميع الأسماء التي استخدمها الأنباط كانت مشتقة من أصول عربية". وعلى قوله فقد اختلطت في معجمهم "كلمات مستعارة من أصول فارسية وعبرية ولاتينية ويونانية وأكدية ومصرية، كما كان شائعاً في لهجات الشرق الأدنى في ذلك الزمن"
(
Hammond:
10, 111
)
. وهذا يكشف بوضوح التفاعل الكبير الذي مارسه الأنباط مع الشعوب الأخرى، بل أن النظرية القائلة بأن الأنباط قد "جاءوا من منطقة ما بين النهرين"، وان تجارتهم حملتهم ما بين النيل والفرات والخليج العربي"
(
Graf, 1990: 66-7
)
- ليست سوى إشارة أخرى لاتساع المجال التجاري الذي تحركوا فيه. فمن مركزهم في مدينة البتراء، كان بإمكانهم الاتصال والتفاعل مع جميع الثقافات القديمة.
ومن ناحية ثانية، فان موقعهم الاستراتيجي ساعد في رفد لغتهم بالأصول العربية الجنوبية. وزادوا على هذا بأن طوروا لها أبجدية استجابت لأصواتها. ومكنتهم قوافلهم التي تنقلت بين حواضر الشرق الأدنى من التفاعل مع ثقافات متباينة. كما أن تجارتهم التي امتدت طيلة قرون عديدة أبقتهم على صلة حميمة مع الحضارة العربية الجنوبية الراقية"
(
Glueck: 4
)
، وأرغمتهم أن يواصلوا "استعمال لغة الجزيرة لأغراض تجارية بحتة"
(
Shahid, 1989: 11-12
)
. كذلك، يبين "معجمهم اللغوي" ترابطاً "مع القبائل العربية الجنوبية"
(
Hammond: 106
)
. وكان السبأيون، الذين أنشأوا حضارة غنية في جنوب الجزيرة العربية قد أقاموا لأنفسهم "مواقع تجارية على طول طرق التجارة إلى الشمال"، كما كانوا شعباً قادراً على القراءة"، وخلفوا ورائهم "نقوشاً لا حصر لها" ترجع إلى القرن السادس ق.م.
(Bellamy: 95-6)
. وحقق الأنباط الثراء مثل سكان الجنوب، لكنهم تميزوا بالانفتاح على ثقافات دولية متنوعة. غير أن التفاعل، بين الأنباط وأبناء جلدتهم في الجنوب، عزز من غرس التقاليد العربية الأصيلة فيهم. ومن سوء الحظ، فان الحرف السبأي في جنوب الجزيرة، والذي ما يزال يستعمل حتى يومنا هذا في الحبشة، لم يتطور بصورة مناسبة، ولذا، لم يقدر له الاستمرار في الحضارة العربية. لهذا، فان شرف تطوير الحرف العربي كان من نصيب الأنباط. وكانت هناك أسباب عديدة وراء ذلك:
1-
الحرف العربي تطوير نبطي:
استخدم الأنباط اللغة العربية الأصلية، لغتهم الأم، في حديثهم اليومي، إلا أنهم أيضاً كانوا من الألمعية بحيث أخذوا يكتبونها "في حرف خاص بهم"
(
Glueck: 7
)
، أو بالأحرى "بحروف موصولة غريبة"
(
Hammond: 111
)
، وطوروا "خطا قومياً اشتق من الخط الآرامي المستخدم في أواخر عهد الإمبراطورية الفارسية"
(
Cross: 87
)
. وكانت إمبراطورية فارس استخدمت الآرامية باعتبارها اللغة الدارجة في ذلك الزمان.
أما الخط النبطي نفسه، فيظهر في شكلين: الأول، "الرسمي" وهو الذي استخدم "في نقوش الأنصاب"، كما في البتراء، أو على القبور؛ والثاني الحرف "الموصول
Cursive
" والذي "استخدم بشكل رئيسي في الكتابة على القرطاس"
(
Healey: 246
)
. أما الحرف العربي الحديث، الذي استخدمه العرب وجميع الشعوب التي أثرت فيها الحضارة العربية الإسلامية، فقد تحدر من الخط الموصول. وهناك من يعتقد أن "الحرف النبطي المتأخر الذي ظهر في شبه جزيرة سيناء، وأطلق عليه اسم الحرف النبطي السينائي، هو الحرف الذي تحدرت منه الأبجدية العربية الحالية"
(
Belamy: 96
)
.
إن الزمن الذي ظهرت فيه وسيلة الاتصال هذه (أي الحرف العربي) مسألة جديرة بالملاحظة. لقد تزامن ظهور الحرف النبطي كحرف قومي مع انحطاط السيطرة اليونانية على المناطق المجاورة لبلاد الأنباط. في هذه المرحلة كان الأنباط قد اكتشفوا انه، لا السلوقيين ولا البطالسة، استطاعوا أن يقهروهم أو يخضعوهم لسيطرتهم. بل وعلى العكس من ذلك: اكتشفوا أنهم يستطيعون أن يقفوا في وجه هذه القوى الخارجية على قدم المساواة في ميدان المعركة، بله ويلحقوا بها الهزيمة ويتغلبوا عليها. كل هذا أدى إلى ازدياد ثقتهم بقوميتهم وبأنفسهم، كما أدى إلى تكوين هويتهم. ولتعزيز هذا الشعور أقدموا على صك النقود، واشتقوا أبجدية مرنة كتبوا بها لغتهم العربية وربما سجلوا بها معاملاتهم التجارية. ويعلق (هاموند) على ظهور أبجدية الأنباط القومية قائلاً:
(
Hammond: 10
)
حتى في هذا المجال، أكدت الشخصية النبطية فرديتها، وتطورت أبجدية الأنباط لتصبح الحروف (نصف موصولة) مع نهاية الربع الثاني من القرن الثاني ق.م. في ذلك الزمن، كانت سيطرة اليونان تضعف على المناطق المجاورة، بل وتتوقف، كما أن الهوية القومية النبطية كانت قد أخذت في تحقيق نفسها.
وشهدت هذه المرحلة أيضاً ظهور دولة الأنباط كمملكة مستقلة، تدير شؤونها سلالة مالكة قديرة، قامت، من بين ما قامت به، بتبني سياسة توسعية، وصك عملة وطنية، وفوق هذا، اهتمت هذه السلالة برفاهية الشعب النبطي وهويته وثقافته. وفي هذا المجال، لابد من ملاحظة "ازدياد بروز العروبة في نقوشهم المتأخرة، وازدياد ظهور الأسماء العربية" وصاحب ذلك "ظهور بعض التغييرات اللغوية عن الأصول الآرامية"
(
ibid
)
. وهذا يعنى أن ظهور القوة السياسية المنظمة (أي السيف) قد ساعد في تغذية الشعور القومي (أي الإحساس بالذات) حسب رأي سميث - عند هذا الشعب المتميز، مما شجعهم على تطوير رموز وطنية، كان الحرف (أي القلم بحسب رأي هارولد انيس) من بينها الأكثر قيمة وتأثيراً.
إن أهمية هذه الخطوة، أي تطوير وسيلة اتصال وطنية نبطية، لا تبدو على صورتها الحقيقية ما لم تقيّم على خلفية الخارطة السياسية للشرق (العربي) خلال هذه الفترة. ففي الوقت الذي انصرف الأنباط فيه لتنمية مملكتهم وتوسيع حدودها، فان "مساحة معتبرة" من أراضي الشرق الأوسط "كانت تسكنها مجموعات عربية متنوعة ... استطاعت أن تتغلغل في عمق الهلال الخصيب، وتكون لنفسها، بين نهري الفرات والنيل، إمارات ودويلات شبه مستقلة". بعض هذه الإمارات كانت قوية ومؤثرة، مثل (أديسا)
(Edessa)
التي أصبحت لاحقاً عاصمة الكنيسة الشرقية السريانية، ونافست في عظمتها مدينة إنطاكية اليونانية. وفي مدينة (أديسا) نفسها ظهرت أبجدية ثانية مهمة، هي السريانية، التي تحدرت أيضاً من الآرامية.
وفي مرحلة لاحقة، أصبحت السريانية، اللغة الدارجة عند مسيحيي الشرق"
(
Shahid, 1984a: 147, 156
)
. لكن أياً من هذه الدول والإمارات العربية لم تحقق المجد الذي حققته مملكة الأنباط، سواء في مجال عمق الإحساس بالهوية، أو الاستقلال، أو القوة، أو الثروة، وفوق هذا كله الحس الوطني. وهنا لابد من الإشارة إلى أن سوريا وفلسطين كانتا قد سقطتا أولاً بيد اليونان، ثم الرومان أخيراً (حوالي عام 65ق.م.)، وتلاهم البيزنطيون، الذين بقوا حتى أخرجهم العرب في القرن السابع للميلاد. ويستثنى من هذا دولة تدمر، المملكة التي ازدهرت في وسط صحراء الشام في "ذات الوقت الذي كانت شمس البتراء تؤذن فيه بالغروب"
(
Hitt
i
: 149
)
. وكانت تدمر دولة عربية، لكنها لم تعمر طويلاً، إذ دمرها اورليان عام 272م، مخلفة وراءها آثاراً مدهشة، وأبجدية معروفة باسم الخط التدمري. ويعتقد بعض الباحثين بأن الحرف السرياني "تطور عن الحرف التدمري"
(
Jensen: 317
)
.
علـى ضـوء هــذه الخلفية التاريخية للمنطقة، فإنه يبـدو من المستحيـل لأي مـن الأبجديتين - السريانية والتدمرية - أن تكونا متنوعتي المضمون،
وأن يكون لهما ذلك النقاء العربي الذي تميز به الحرف النبطي. ذلك أن دولة الأنباط، التي احتفظت بعلاقات وثيقة مع المجتمع الدولي، احتفظت أيضاً بصلات أوثق مع الجزيرة العربية، عمرت لفترة طويلة من الزمن، وأتاحت لها أن تترك آثاراً ملموسة على ثقافتها.
بناء على ما سبق، فبإمكاننا أن نفترض الآتي:
أولاً:
أن الحرف النبطي - بفضل موقع بلاد الأنباط الاستراتيجي، وبسبب قربها من الروح والبيئة العربية، وبسبب الحس الوطني السياسي الذي تميز به شعبها المتفرد - ستكون له اليد الطولى في أية منافسة مستقبلية مع شقيقيه الخطين الآخرين (التدمري والسرياني)، إذ ستتوفر له فرصة أكبر لقبوله وتبنيه من سكان تلك المنطقة الواسعة.
ثانياً:
ستغدو الأبجدية النبطية نفسها أكثر مرونة، وأكثر دقة، من الحرفين الآخرين، وهي لذلك ستمثل الأصوات العربية بشكل أفضل. بل أن هذه المرونة تعززها حقيقة أخرى، وهي أن اللغة العربية النبطية ستكون أكثر تنوعاً "وعالمية"
(
Hammond: 111
)
في معجمها على وجه الخصوص.
ولو قارنا الحرف النبطي مع الحرفين الآخرين، فإننا نجد الحرف السرياني، بحكم الواقع، أكثر اهتماماً باللغة الدينية المسيحية، ولذلك ستكون مفرداته المتعلقة بالأعمال التجارية والعلاقات الدولية محدودة. كما أن الحرف التدمري الذي لم يعمر طويلاً، كان قد واجه مصيراً مأساوياً حين خضعت تدمر للحكم الروماني المباشر فانتهى دوره. فوق هذا، لم يكن لأي من هاتين الأبجديتين القوة السياسية، أو المقدرة، لبناء مؤسسة قوية تعمر فترة طويلة من الزمن، مؤسسة تجعل (السيف) يعمل إلى جانب (القلم). لذلك، فان أي تأثير لهما لن يعمر طويلاً، وبالأحرى سيكون محدوداً، خاصة في اتجاه الجنوب - بعكس ما يمكن أن يحدث مع الحرف النبطي.
وفيما يتعلق بالموقع الاستراتيجي، فان توجه الإمارات العربية السورية سيكون دوماً باتجاه الغرب، في حين أن المملكة النبطية ستتطلع
في اتجاهين: الجنوب بما يتمتع به من قوة معززة للتراث؛ والشمال والغرب، بما يتمتعان به من تنوع ثقافي وثراء دولي. وهكذا، سيصبح الخط مرناً أكثر لأنه سيمثل الأصوات المختلفة. لكن على أية حال، فان المنافسة المستقبلية بين هذه الخطوط، لن تحسم على أساس البروز الاستراتيجي، والقدرة على التنظيم فحسب، وإنما أيضاً على أساس مسألتين أخريين هما: الاستمرارية، والإبداع.
إن تطوير أبجدية وطنية، استطاعت أن تكيف نفسها مع اللغة العربية الفصيحة يجلب إلى الأذهان دور آلهتهم (الكتبى). وتنبع أهمية أسمها في الواقع من كونها مشتقة من فعل (الكتابة) في اللغة العربية. وفي هذا المجال، تصبح الكتابة عند الأنباط، عملاً اتصالياً مقدساً، كما كانت بين الشعوب القديمة. أن شخصية الأنباط المتفردة أبت عليهم إلا أن تكون لهم آلهة خاصة للكتابة تماماً كما كان (نبو) عند السومريين و(ثوت) عند المصرييين، و(أثينا) عند اليونان، و(هرمز) عند الرومان- هذه الآلهة التي أشرفت على هذه العملية الفكرية المقدسة.
لقد أشادت المملكة النبطية، نظاماً اقتصادياً وسياسياً مؤثراً، وتمكنت من تطوير أبجدية قومية. غير أن (هارولد إنيس) يرى أن مفهوم الإمبراطورية لا يرتبط بفاعلية الاتصال فحسب، وإنما "بإمكاناتها في إيجاد ظروف مؤيدة لاطلاق الفكر المبدع من عقاله"
(
Innis: 9
)
. لقد أدى التنظيم السياسي إلى النجاح في التجارة، واستدعى ذلك النجاح إيجاد أبجدية مرنة لتسجيل المبادلات التجارية، كما استدعى وجود إدارة لامركزية تحافظ على الطرق آمنة، ليتحقق الازدهار والنماء. وهكذا نجد الأنباط يستخدمون الآرامية في الإمارات الآرامية، وعلى المستوى الدولي، ويقتصرون في استخدام العربية على الشؤون الداخلية لتحقيق أهداف عليا، كتعميق الإحساس بالذات، وليتمكنوا من التواصل مع العرب الآخرين، الذين تبادلوا معهم التجارة. هذه الاتصالات مع الجنوب، مع الأصول والجذور، عملت على تعزيز الثقافة النبطية الشفوية، كما عملت على تغذية الشعور القومي لديهم، تماماً كما فعلت ديانتهم، وفرديتهم، ونقودهم، وطموحاتهم للنجاح والبرجماتية، لذا، كان لابد من تطوير الأبجدية الآرامية، لتتناسب وشخصيتهم الوطنية المستقلة، وطموحاتهم، وأعمالهم التجارية، بصورة تمكنهم من كتابة اللغة العربية، لغتهم الأم، بها.
لجميع الأسباب السالفة الذكر: تنوع التفاعل الثقافي، وثراء المعجم اللغوي، والتعزيز الطويل الأمد للغة نتيجة الاتصال مع الأصول في الجنوب، فان الحرف النبطي لابد أن يتم تطويره ليلائم التعبير عن اللغة العربية وأصواتها. وفوق هذا، ستكون للحرف النبطي نفسه مكانة أعلى من الحرف العربي الجنوبي الذي لم يتطور عند بقية العرب. من المؤكد أن الأنباط لو وجدوا الحرف السبأي ملائماً لاحتياجاتهم،
لكانوا استعاروه واستخدموه. لكن بدلاً من ذلك، نراهم يختارون تطوير الحرف الآرامي، الذي وجدوه أكثر تمثيلاً من الحرف السبأي الجنوبي. وقد جاءت خطوة تطوير الحرف النبطي حين كان الأنباط في أوج مجدهم السياسي وقوتهم واستقلالهم. وهكذا، فان الحرف النبطي، وسيلة التعبير القومية، سيحتل حتماً المكانة الأولى على الحرفين الآخرين، السرياني والعربي القديم، في أية منافسة مستقبلية بينهما. فوق هذا، فان استخدامه سيؤدي إلى أن تصبح مجالات حياة الأنباط التي أصبحت منظمة ومركزية، ذات فعالية أكبر ودقة وكفاءة أعلى.
2-
التأثير النبطي الاتصالي: أبجدية عالمية
إن احتكار طرق التجارة، والتنظيم السياسي، والمنعة الاقتصادية، والإحساس العميق بالذات، عوامل سمحت مجتمعة للأنباط بتطوير أبجديتهم. كما أن تطوير وسيلة اتصال مرنة، بما عناه ذلك من مشاعر رفيعة من الاعتزاز القومي، وما أعقبها من سنوات طوال من الصمود والثبات، استدعت إدخال المزيد من الدقة والكفاءة على أساليبهم. هذه الكفاءة سمحت بسيطرة أكبر على البيئة المباشرة - الصحراء- تماماً كما استطاعت الحضارات المجاورة من فرض سيطرتها على نهري النيل والفرات. وكان أن جاءت المرحلة الجديدة بتقسيمات جديدة للعمل ولدت المزيد من التنظيم والتحدي، مما أدى إلى إطلاق الفكر المبدع من عقاله، وازدهاره. ونظراً لأنهم أكدوا على بعد الزمن في تطوير الأبجدية أولاً، ونصبهم ثانياً، أخذت الحضارة النبطية ترزح تحت ضغط متزايد في مواجهة قوة منظمة تستعمل أبجدية مرنة أكثر منهم. لقد استخدم الرومان الحرف اللاتيني - المتحدر عن الإغريقية المتحدرة بدورها عن الفينيقية - الحرف الذي طوره اليونان بإدخال حروف العلة عليه. إلا أن الأبجدية النبطية، وتصفيتها من الشوائب المختلفة، احتاجت هي الأخرى- إلى رسالة سماوية، تماماً كما احتاج الحرف اللاتيني إلى الكنيسة المسيحية، ليصبح موحد الحروف، وينتشر على أوسع نطاق.
إن سقوط المملكة النبطية سياسياً، لم يكن نهاية المطاف، لأن ضمها لروما كان انتصاراً للثقافة الاتصالية النبطية، فدعا الرومان دولة الأنباط التي ضموها لهم باسم (الإقليم العربي). وبفضل الاستقرار الذي نعم به (الإقليم العربي)، فقد امتد تأثير الأنباط، وانتشر إلى بقية بلدان الشرق الأوسط خلال القرون التالية. ويصف (عرفان شهيد) استمرار الحضارة النبطية لمدة قرن ونصف بعد عام 106م على النحو التالي:
... بقي العرب الأنباط مستقلين لكنهم كانوا يخضعون لروما. ان ضم بلاد الأنباط وتحويلها إلى إقليم روماني، كان يعنى امتلاك روما لرقعة واسعة من أراضي العرب، شملت سيناء، وشرقي الأردن، ومنطقة وادي عربة وعبرها، وجزءاً كبيراً من الحجاز في شمالي الجزيرة العربية. كان العرب الأنباط المجموعة العربية الوحيدة منذ القديم التي استطاعت أن تنظم نفسها سياسياً وتجارياً، وغدت أكثر الأقطار عروبة في منطقة الشرق جميعها. وحتى في القرن الرابع الميلادي، فان تاريخ الكنيسة يشهد باستخدام اللغة العربية الدارجة في الإقليم في احتفالات دينية وثنية. وقد استمر الطابع العربي هو المسيطر على الإقليم بعد ضمه
(
Shahid, 1984a: 14-15
)
.
إن إطلاق الرومان على بلاد الأنباط اسم الإقليم العربي
(Province Arabia)
، لهو تأكيد على هوية سكان الإقليم العرقية. ويرى (هيلي) أن "القرون الخمسة الأولى للميلاد شهدت انتشار اللغة العربية إلى مناطق فلسطين والأردن وسوريا، وحلت بذلك محل اللغة (العربية) القديمة المستخدمة في المنطقة قديماً، كما حلت محل الآرامية التي أصبحت لغة تقليدية تراثية"
(
Healey: 246-7
)
.
كان أثر الأنباط الاتصالي الثاني المهم والخالد، ذلك الميراث الذي أورثوه لأقربائهم العربي، المتمثل بالخط العربي الذي انتشر انتشاراً واسعاً. وحمل العرب الذين جاءوا بعدهم الرسالة، وتواصل استعمال الحرف النبطي العربي. وساعد استخدام هذا الحرف بإدخال المزيد من الدقة على الحياة العربية، حتى تمكن الأحفاد أخيراً، وبعد مرور خمسمائة عام على سقوط الأنباط السياسي، من النهوض والتحليق ثانية. وكان على العرب أن يطوروا الحرف النبطي-العربي ليدونوا القرآن الكريم به، هذا الكتاب الذي يتوجب على كل مسلم مؤمن أن يتلو آياته ويحفظها. ولتحقيق هذا الامر، أصبح لزاماً على المسلم، سواء كان عربياً ام غير عربي، أن يتعلم قراءة الحرف النبطي-العربي. وكان ذلك سبباً مباشراً في القضاء على الحرف الآرامي
(بعلبكي: 46-47
) وسبباً مباشراً في انتشار حرف الضاد -النبطي الجذور- على نطاق دولي.
ولجسر هذه الفجوة، ما بين سقوط مملكة الأنباط، وظهور الحرف العربي، سنتتبع فيما تبقى من صفحات، النقوش التي تبين كيف استطاع الأثر الثالث للأنباط أن يستمر خلال القرون التالية، بعد سقوط الأنباط سياسياً، حتى بدء استخدام هذا الحرف في كتابة اللغة العربية في القرن الرابع للميلاد، ممثلاً بظهور نقش النمارة المشهور.
حين خضعت مملكة الأنباط سلماً للرومان، وانتقلت السلطة إليهم، استمرت التأثيرات النبطية الثقافية، وخاصة في الفنون، والهندسة الزراعية، ونظم حفظ الماء. ولاشك أن ثباتهم تلك السنوات الطويلة في مواجهة الرومان قد أحلهم مكانة عالية في نفوس بقية العرب. غير أن التأثير الأهم الذي خلفه الأنباط كان الحرف العربي النبطي. لقد استمرت وسيلة الاتصال هذه مستخدمة بفضل النسق السياسي القوي المنظم الذي نجحوا في بنائه، وكنتيجة مباشرة لروح التحدي والكبرياء التي أبدوها على مدار قرن أو أكثر. وأيدت المقاومة والتنظيم انتشار الأبجدية المرنة. ومع أن العائلة المالكة النبطية كانت ذهبت واختفت، ومع زوالها، سقط رمز المملكة السياسي، لكن الأثر الثقافي بقي حياً في ضمير الشعب ووجدانه، فأثمر بعد ذلك أثمن هدية يقدمها شعب لأحفاده.
عندما حدث ضم مملكة الأنباط إلى دولة الرومان عام 106م، واصل الأنباط المتقدمون في مسالك الرقي والحضارة حياتهم في مدنهم وقراهم. وأغدق الإمبراطور (تراجان) على البتراء نفسها لقب حاضرة
(metropolis)
في عام 114م. وبعد (تراجان)، جاء خلفه (هادريان) الذي أغدق عليها اسمه عام 130م، "ومنذئذ اغتبطت البتراء بلقب هادريان"
(
Bowersock: 85, 110
)
. يكشف هذا عن أن الرومان لم ينتقصوا من مكانة البتراء أو دورها، فبقيت مركزاً هاماً. وقد أعطاها اهتمام الأباطرة بها فرصة ذهبية لنشر ثقافتها وأبجديتها التي وقفت سداً منيعاً أمام انتشار الأبجدية اللاتينية واليونانية في المنطقة. فمع قدوم القرن الثالث للميلاد "كانت اليونانية هي اللغة البارزة الوحيدة في المنطقة"
(
Graf, 1987: 394
)
. وحين تحولت روما إلى المسيحية، اعتنق الأنباط بشكل جماعي الديانة الجديدة. وقد ساعد هذا الأمر في انتشار التراث النبطي، وخاصة الحرف، بين المجموعات العربية في منطقة الشرق الأوسط. بل أن (هاموند) يرى أن أحفاد الأنباط ظلوا يذكرون مجد آبائهم الغابر بعد مرور ثمانمائة عام على سقوط بلادهم السياسي، ويشير بالتحديد إلى أبو بكر أحمد بن علي بن قيس بن وحشية المعروف باسم النبطي
(
Hammond: 38-39
)
. يضاف إلى هذا لغز انتشار الشعر المعروف باسم الشعر النبطي بين البدو حتى يومنا هذا. من أين جاء هذا الشعر، وما صلته بالأنباط،
مسألة بحاجة للكشف عنها.
نقوش الأنباط
تحكي النقوش النبطية المؤرخة، رغم قلتها، استمرار التأثير النبطي، بفصاحة أكبر، شارحة تأثيرهم الاتصالي الذي نهلت الأجيال العربية اللاحقة منه. فنقش (الروافة) المكتوب بأبجديتين، اليونانية والنبطية، والذي وجد في معبد في شمال مدائن صالح "يقيم الدور الرسمي لحاكم روماني في الحجاز خلال القرن الثاني للميلاد"، كما يبين بشكل أوضح "أن الثقافة النبطية كانت قد غرست بقوة في منطقة الحجاز، حيث استخدمت مجموعة من قبائل ثمود العربية (المتحدة كونفدرالياً فيما بينها) اللغة والحرف النبطي في بلادها بدلاً من استخدام أبجديتها الخاصة بها"
(
Bowesoc
k: 97
)
. وكان الثموديون قد طوروا حرفاً خاصاً بهم، هو الثمودي، الذي هو أحد فروع الحرف العربي القديم الذي نشأ في جنوب الجزيرة، والذي تحدّر أصلاً من الحرف الكنعاني قبل ذلك ببضع مئات من السنين
(
Jensen: 337
)
. ويبين نقش الروافة، وبشكل قاطع، أن الحرف النبطي كان قد فُضّل على الحرف الثمودي، الذي انتهى مع نهاية القرن الرابع للميلاد
(
Winnet & Reed: 131
)
. كما يبين استخدام الحرف النبطي في موازاة الحرف اليوناني وعلى قدم المساواة معه لنقل مضمون الرسالة في تلك الأرجاء في الصحراء.
وفي أم الجمال، في شمال الأردن، وجد نقش آخر، مكتوب بلغتين أيضاً: اليونانية والنبطية. ويرجع هذا النقش "إلى النصف الأول من القرن الثالث الميلادي" وهو يحيي ذكرى معلم نبطي عربي “عاش في الاقليم العربي، وقدم خدماته لملك تنوخ"
(
Bowesock: 133
)
. ويبين هذا النقش تغلغل تأثير الأنباط باتجاه الشمال، من خلال أعمال الكتابة والتعليم التي قاموا بها.
كما وجد نقش ثالث نبطي-ثمودي في مدائن صالح "لفتاة اسمها (رقاص) ابنة (لعبد-ماناتو). ويتضمن النص النبطي معلومات متفرقة من ضمنها العام 267م، في حين أن النص الثمودي يذكر اسم الفتاة المتوفاة فقط"
(
Naveh: 46
)
. وهذه إشارة أخرى إلى أن الحرف النبطي قد استخدم على نطاق واسع في الجنوب، في الوقت الذي كان فيه الحرف الثمودي في طريقه إلى التلاشي.
ويعتبر بعض الباحثين النقش الذي وجد في "معبد نبطي للات، الآلهة العربية الوثنية ... على جبل رم" في جنوب الأردن بمثابة "النقش الأقدم" الذي يستخدم الأبجدية العربية. ويرجع هذا النقش إلى القرن الرابع الميلادي، ويعكس إلى حد بعيد نفسية الأنباط المغامرة. وقد نقش عليه نص يكشف "تفاخر رجل نشيط بقوله أنه تجول في العالم وجمع ثروة، وهو يعلن ذلك للضجرين من الحياة الذين لم يستطيعوا أن يفعلوا مثله"
(
Bellamy: 98
)
.
أما أشهر النقوش على الاطلاق، فهو النقش المعروف باسم نقش النمارة، والذي يرجع إلى عام 320م، وقد وجد على قبر امرؤ القيس "ملك كل العرب" في جنوب سوريا: هذا النص العربي، القديم المكتوب بأحرف نبطية، يوضح توقف العرب عن اعتماد اللهجات الآرامية، مثل النبطية والتدمرية، لكتابة الوثائق العامة. ويفتتح نقش النمارة بالجملة التالية: "هذا قبر امرؤ القيس، ابن عمرو، ملك جميع العرب"
(
Bowe
r
sock: 138-9
)
.
نقش النمارة
ويبين هذا النقش أن اللغة العربية، تبنت الحرف النبطي مع مطلع القرن الرابع للميلاد. لذلك، فإننا نستطيع أن نستنتج أن العرب الذين حكموا من منطقة الحجاز، بعد ذلك بثلاثة قرون، ما كانوا ليفضلوا الحرف النبطي على الحرف السبأي، لولا أنهم وجدوا أن الأول ميّز نفسه بشكل مناسب، وأصبح مرناً أكثر ويمثل بصورة أفضل الصوت العربي. لقد اختار العرب المسلمون الحرف النبطي لأنهم وجدوه أكثر عملية ومرونة وقرباً من الروح العربية.
ولقد وجدت بقية النقوش المكتوبة "بالخط العربي الجديد" في المنطقة الغربية من الهلال الخصيب. وأشهر هذه النقوش: زبد (512م)، وعسيس
Usaus
(528م)، وهران (528م). هذه النقوش تبين “بشكل واضح انتشار الخط العربي في مناطق مختلفة من الشرق الأوسط"؛ رغم هذا، فان بعض الباحثين يبدون عدم اقتناعهم، ذلك أن "قلة المعلومات التي تمثلها ستة نقوش فقط" تجعل من "الصعب تقديم وصف دقيق لولادة هذا الخط"
(
Shahid: 411
)
العربي. من هنا، يبدو واضحاً أن المشكلة تكمن في "ندرة"
(الأسد: 31-32
) النقوش التي عثر عليها في الفترة الواقعة بين ضم المملكة النبطية عام 106م، وبزوغ شمس الامبراطورية العربية في مطلع القرن السابع الميلادي.
لكن رغم ندرة هذه النقوش، فان تطور الحرف العربي يجب أن ينظر إليه كعملية تأثرت بخواص اتصالية، مثل: القوة السياسية، البروز الاستراتيجي، التنظيم، الإبداع، الاستمرار. كما أن النظم والمؤسسات لا يمكن أن تزدهر دون استخدام الاتصال، الذي هو أساس بقائها. بل إن ندرة هذه النقوش مسألة تقدم إضاءات من ناحية ثانية: ففي الوقت الذي كانت فيه اللغة اليونانية تستخدم في المراكز الحضرية، نجد أن جميع النقوش النبطية المؤرخة قد عثر عليها على "أطراف الإقليم العربي أو وراء حدوده". لذا، "فان الحرف النبطي، حينما يستخدم في هذه النقوش، فانه يرتبط مع غرباء، مثل التنوخيين في أم الجمال، وامرؤ القيس (الذي هاجر من بلاد ما بين النهرين) في النمارة"
(
Graf: 394
)
. وهذا يبين بشكل قاطع أن الأثر النبطي قد بقي، إذ بدأت نظم اجتماعية أخرى تستخدم الحرف النبطي، خاصة في الأطراف، حيث كان التأثير اليوناني ضعيفاً. بعبارة أخرى، فان الحرف النبطي وجد قبولاً عند عامة الشعب العربي الذي كان يعيش في الأطراف.
لقد تطور الحرف العربي على يد الأنباط واستمر على يد القبائل التي سكنت منطقة الأنباط، وهم التنوخيون والغساسنة والصالحيون، وكانوا جميعاً هاجروا من جنوب الجزيرة العربية أصلاً
(
Shahid, 1984b: 414-416
)
. وقد واصلت هذه القبائل استخدام الحرف النبطي وتعديله بما يتناسب ولغتهم، التي كانت لغة عربية فصيحة. وتبدو مسألة الاستمرارية في هذه الحروف واضحة للعيان، إذ أن "كل من يمعن النظر بالنقوش النبطية ويقارنها" بالحرف العربي الحديث "سيلاحظ أن العديد من أشكال الحروف لم يتغير مطلقاً، أو تغير قليلاً، رغم أن أقدمها كتب منذ 1600 سنة"
(
Bellamy: 99
)
. هذه النقوش تشهد إذن بأن أثر الأنباط الاتصالي سيظل خالداً، وسيعمر ما بقي العرب، والثقافات الأخرى التي تكتب بهذا الحرف.
في السنوات التي أعقبت نقش النمارة طور الحرف النبطي نفسه أيضاً، من خلال الاستعارة على وجه الخصوص من الحرف السرياني (الحركات والنقاط)، ليصبح في شكله النهائي ممثلاً بشكل واضح لجميع أصوات الحرف العربي
(
Healey: 244
)
.
بل ان الأدلة المتوفرة تكشف ان بعض الحروف النبطية كانت منقوطة في أعلاها كالراء تمييزا لها عن الذال. ولذا يستنتج بعلبكي ان "نمط التفرقة بين الحروف بالاعجام" قد يكون "مأخوذا عن النبطية" نفسها وليس السريانية، ذلك ان الاعجام ظهر أيضا في بردية مصرية ترجع الى عام 22 هجري "وفي نقش وجد قرب الطائف ويرجع الى سنة 58 هجري (678 م)". وهو ينفي بهذا أن يكون نصر بن عاصم (ت 129) من "ابتدع الإعجام" ( بعلبكي: 174، وانظر الأسد: 38). يضاف الى هذا، ان الحمد توصل الى ان الكتابة العربية قد ورثت "ما ورثته الكتابة النبطية عن الآرامية من الإشارة الى الضمة والكسرة الطويلتين برمزي الواو والياء الصامتتين". ويضيف الى ذلك ان الكتابة النبطية تمكنت من "تطوير الكتابة الآرامية ذات الرموز الاثنين والعشرين للتعبير عن اللغة العربية ذات الثمانية والعشرين صوتا (صامتا) صحيحا" (الحمد: 71).
ومع أن الإمبراطوريتين اليونانية والرومانية سيطرتا على منطقة الشرق الأدنى لفترة تناهز العشرة قرون، إلا أن حرفهم لم يرسخ في المنقطة. فالحرف اللاتيني الذي سار حيث سارت الجيوش الرومانية
(Stroud: 117)
انتشر في أوروبا الغربية، لكنه أخفق في ثقافتين: الثقافة اليونانية، والثقافة العربية. وعلى الرغم من أن الرومان "كانوا القوة السياسية الرئيسية في اليونان منذ القرن الثاني ق.م." إلا "أن العادات اللغوية عند اليونان لم تتغير مطلقاً. وبقيت اللغة اليونانية تكتب بالنظام الذي ورثوه عن الفينيقيين في القرن التاسع ق.م."
(
Wallace: 132
)
مثلهم مثل العرب تماما.
وفي الشرق الأدنى، أظهرت الحضارة النبطية المزدهرة، بعد ضمها لروما، مقاومة مماثلة. لقد نجحت روما في التأثير في الثقافات الأقل تقدماً في أوروبا، فأعطتها الحرف اللاتيني. وبالتأكيد، فان موقع بلاد الأنباط البارز والاستراتيجي قام بدور هام في مقاومة انتشار الحرف اللاتيني. يضاف إلى هذا أن الرومان لم يستطيعوا احتلال الجزيرة العربية. وأصبح الأنباط، بعد ضمهم، الوسطاء بين ثقافتي روما واليونان من جهة، وبين بقية العرب إلى الجنوب من بلادهم. وقد أعطاهم موقعم الجديد هذا يداً طولى في الاحتفاظ بثقافتهم وأبجديتهم دون تغيير. كما أن قوة الحرف العربي المشتق من الحرف النبطي استطاعت في وقت لاحق أن تطرد "الحرف اليوناني من بلاد الأناضول وسوريا ومصر، والحرف اللاتيني من شمالي إفريقيا، والحرف السلافي من بلاد البوسنة"
(
Diringer: 11
)
. وفي هذا، وصل تأثير الأنباط الاتصالي الثالث الذروة.
كل هذا يكشف بصورة أكيدة أن الثقافة النبطية تستمر حاضرة إلى الآن مع كل إنسان يكتب الأبجدية العربية. أما أولئك الذين لا يستخدمون الحرف العربي، فان الرسائل الساحرة التي تشع من البتراء، أو الرقيم كما أسماها أصحابها، تظل تشهد لأصالة ذلك الشعب وعبقريته. ولهذا، تصبح مملكة الأنباط في تاريخ ثورة الاتصال الأولى للأجيال اللاحقة "إمبراطورية" مهمة في الشرق، بصورة تماثل أهمية الإمبراطورية اليونانية في الغرب.
3
-
الأثر الاتصالي النبطي الثالث: الآثار الرائعة
لقد مكنتهم سياسة النضال والتحدي التي اتبعوها من أن يخلفوا وراءهم أثراً أبدياً لا يمحى. أن الإبحار على دروب التنمية للوصول إلى المدنية والاستقرار هو تعبير عن نضج هويتهم القومية، وتصميمهم على مواجهة سيطرة روما. وفي هذا، كان عليهم أن يعتمدوا على ذاتهم. وأثناء تطبيقهم لهذه السياسة، أي الاعتماد على الذات، فان المركزية المتزايدة ساعدتهم على إيجاد مناخ مناسب لإزدهار "الفكر المبدع". ولأنهم دوماً كانوا أناساً اتصفوا "بحساسيتهم إزاء الجمال، الذي سعوا "لإدخاله في أعمالهم العمرانية وفي فخارهم"
(
Glueck: 5
)
(الرقيق الملون). كان إذن لا بد من إيجاد رمز جديد، مؤثر جداً، يبين مقدرتهم على التنمية والمقاومة، وذلك ليؤكدوا نبوءة مارشال ماكلوهان التي جاءت بعدهم بألفي عام، والتي قال فيها، أن الوسيلة هي الرسالة
(The Medium is the Message)
.
مع بداية التاريخ الميلادي، أصبح الحرف النبطي "موحداً"
(
Diringer: 209
)
. وقد سمحت عملية التوحيد هذه للحرف بالانتشار على نطاق واسع. لكن مع تزايد الضغوط الرومانية، كانت الصحراء - ملاذهم الآمن - تمتد أمامهم. وفي عمقها (عند مدائن صالح ووادي السرحان) فكر الأنباط في إقامة خط دفاع ثانٍ ينسحبون إليه إذا ما دعت الحاجة لذلك. في ذات الوقت، نقلوا عاصمتهم من البتراء إلى بصرى الشام في جنوب سوريا، وربما ليؤكدوا لروما عزمهم على الصمود في خط مواجهة مباشر معهم. كان الوقت يمر بسرعة. كان عليهم أن يسرعوا إذا أرادوا الإضافة على إبداعهم الأول، وسيلة الكتابة القومية التي طوروها، بعداً جديداً لا يعكس فقط شخصيتهم الصلبة، بل وروحية التحدي الجديدة. ورأوا أن هذه الوسيلة الجديدة يجب أن تكون على قدم المساواة مع الوسائل التي أوجدها العالم القديم (كالأهرامات وعجائب الدنيا القديمة). كما رأوا أن الوسيلة الجديدة يجب أن تكون رمزاً لسيادتهم وقوتهم. وهكذا، كان لابد من اتخاذ إجراءات كبيرة خلال القرن الأول للميلاد.
بعد سنوات قليلة من نجاح الرومان في إخضاع منطقة الشرق الأوسط لسلطانهم، باستثناء المملكة النبطية، اتجه الحارث الرابع (8-40م) وخلفاءه، إلى تطبيق سياسة جديدة للتنمية والتمدين والنمو الاقتصادي وتوطين الناس بشكل متسارع. وحين تحولت طرق التجارة إلى البحر الأحمر، بحسب خطط الرومان التي كانت تستهدف خنق الأنباط اقتصادياً، انطلق الحارث الرابع “في تنمية شعبه وبلده بصورة لم تحدث من قبل"
(
Bowersock: 57
)
. وقد أمر "بإرسال المستوطنين" ليقيموا في مدائن صالح، في شمال الحجاز، وإلى مناطق أخرى في الصحراء - وادي السرحان - التي شهدت "إحياء مفاجئاً عند نهاية القرن الأول الميلادي"، وكل ذلك بهدف إيجاد "مواقع خلفية يلجأون إليها ... .إذا ما أصر الرومان على احتلال شرقي الأردن". علاوة على ذلك، فان "أنظمة الري المتقدمة" التي طبقوها "تبين الأهمية المتزايدة للزراعة في ذات الوقت الذي كانت إنتاجية طرق التجارة القديمة تضعف ونشاطها يخف" كان الأمر الأهم اقدام الحارث الرابع على بناء أعظم نصب البتراء
إطلاقا:
... وهذه هي المدرج المنحوت بالصخر ... والمعبد البارز المنحوت بالصخر الذي يتوسط المدينة والمعروف بالاسم الشعبي "قصر البنت" ... [الذي يبين] أن الأنباط، إبان عهد استقلالهم، قد طوروا تحت تأثير الذوق الهيلليني للإمبراطورية الرومانية الشرقية أسلوباً راقياً جداً. بل إن المسرح الذي بنوه مثال واضح على قدرة الأنباط على استيعاب الأساليب الرومانية - اليونانية ... ولقد كانت البتراء مركزاً دولياً ... وفوق ذلك يصبح من المحتمل جداً إن الواجهة الساحرة لما يسمى بالخزنة [خزنة فرعون] قد تمّ نحتها في ذات العهد
(
ibid: 60-64
)
.
رموز الإبداع والتنمية هذه تعلن في الحقيقة بدء مرحلة جديدة في حياة الأنباط، مرحلة تكشف عن نجاحهم المتمثل في إحداث سيطرة مباشرة على البيئة المحلية تحل محل احتكارهم لطرق التجارة. هذه السياسة الجديدة جعلت الصحراء تخضرّ، والصخر الأصم يتكلم.
استطاع الأنباط على مدار قرن ونصف أن يتعايشوا مع الرومان في فترة اضطروا فيها لإعادة تكييف سياستهم الداخلية باتجاه مزيد من المدنية، والمركزية، والتعبئة. وخلال هذه الفترة نجحوا في صد "سلسة من الهجمات المتتالية" التي شنها الرومان عليهم بين "عام 62 و 55 ق.م."
(
Graf, 1994: 271
)
. وأدت المدنية التي بلغوها إلى إيجاد تقسيمات جديدة في العمل، مثل تطوير أنظمة متقدمة للسيطرة على الماء، وزراعة الأودية والسفوح باستخدام أسلوب المصاطب، والتنقيب في صحراء سيناء بحثاً عن النحاس. وفي الحقيقة، استطاع الأنباط أن يحدثوا تغييراً شاملاً في شؤون حياتهم، والانتقال من مرحلة البداوة والاتجار بالقوافل إلى مرحلة الاستيطان المدني. وكبرهان جديد على "الإحساس بالذات" الجديد، "والتحول النفساني" الذي مروا به، وتحت تأثير إبداعهم في تطوير الحروف العربية - الذي جعل حياتهم تتميز بكفاءة أعلى- صارت الظروف مواتية للخلق والإبداع. ونتج عن ضغوط الرومان، والمقاومة التي أبدوها لمواجهة هذه الضغط، أن ارتقى الحس الوطني. وحين تطلعوا
حولهم، لم يجدوا في الصحراء، ملاذهم الآمن أبداً، إلا الصخر وسيلة وحيدة تتحدى الزمان وتقاومه. فاختاروا الصخور، التي منها صنعوا آلهتهم، لينحتوا منها رسالة تحمل مضموناً ذا دلالة عظمى. هذه الرسالة التي لم يكتبوها بالقلم، بل نحتوها بالأزميل، "أكدت أهمية الملكية والسلطة المركزية"
(
Innis: 54
)
. وقد أراد الأنباط أن تكون رسالتهم عالمية، تحمل طابع البتراء العالمي، وتحمل معاني العظمة والتحدي، تعكس تصميم ملوكهم وتشجيعهم على عدم الاستسلام، وترددها الأجيال القادمة وهي تقف مشدوهة أمام هذا الإنجاز، سواء كان من يشاهدها فناناً كبيراً أو إنساناً عادياً، على حد سواء. وبعد ألفي عام يجد الفنانون المبدعون، من أمثال (روبرتس) و (بيرغون)، هذا الانجاز باهراً رائعاً، يتحدى الخيال الانساني، ذا طابع يتجاوز الثقافات والدول ويتغلب على بعدي الزمان والمكان. لقد مثل هذا الانجاز تفوق الأنباط الثقافي على الحضارات المعاصرة لهم، التي عايشوها وارتحلوا ما بينها على ظهور قوافلهم.
كما أن بناءهم للمدرج في هذه الفترة أيضاً لدلالة واضحة على ارتقاء مستواهم الفني والديمقراطي.
وهكذا، سعى الأنباط الذين ارتحلوا على نطاق واسع، وعن ادراك تام بالجمال وقدرة الانسان على الابداع، أن يبدعوا بأنفسهم نُصباً يتفوقون بها على روائع العالم القديم وأعاجيبه. ومن هنا جاءت رسالتهم التي صنعوها في وقت نضوجهم الفني وتحت تأثير الضغوطات الخارجية، تعبر عن المقاومة والتحدي والأمل.
عاش الأنباط في السنوات الأخيرة من استقلالهم، حياة هادئة مزدهرة. وارتبطت مملكتهم "بشبكة جيدة من الطرق السلطانية التي وفرت لهم مواصلات سهلة"
(
Bowersock: 74
)
. وحين ضمت المملكة للامبراطورية الرومانية عام 106م، فان "سلطانهم السياسي قد اختفى ... لكن روحهم التي قاومت الخضوع عاشت، خاصة في الفنون"
(
Hammond: 112
)
، كما خلدت في أبجديتهم أيضاً.
لا عجب بعد ذلك أن نجد أحد الأباطرة الرومان (هادريان) يقدم باعتزاز على منح اسمه للبتراء، تماماً كما وجد (بيرغون)، بعد مرور ألفي عام، أن البتراء "لم تكن عملاً من يد انسان مبدع". لقد كان هذا هو الأثر الاتصالي الثاني الذي خلفه الأنباط لنا، مثبتين فيه أن الوسيلة تستطيع أن تحتفظ برسالة خالدة تتحدى الزمن.
الخاتمــــــــة
إن الاحتكار الذي مارسه الأنباط على طرق التجارة، والذي أداروه من عاصمتهم البتراء في موقعها الاستراتيجي، كان مواتياً لفرض التنظيم واللامركزية وتطوير أبجدية قومية. وأدى التفاعل مع الشمال لأن تصبح البتراء حاضرة عالمية يستخدم أهلها معجماً غنياً متنوعاً. أما التفاعل مع الجنوب، فقد كان تفاعلاً مع الأصول، مما سمح للأنباط، من خلال موقعهم البارز، لأن يطوروا وسيلة اتصال فعالة. وكانت هذه الوسيلة صلة للوصل بين الكلمة المحكية والمكتوبة، مما عزز الاستقلال وهزم الجيران الطامعين. لكن إيجاد حرف موحد، عند الأنباط، صار دافعاً لظهور المزيد من التنظيم والمدنية، اللتين شجعتا بدورهما الإبداع وفرضتا المزيد من المركزية. وساعد الحس الوطني القومي على التمسك بالمقاومة، وعلى الشروع في التنمية الزراعية والمدنية. لكن تحدي الخطر الروماني، مع وجود إحساس قوي بالذات الوطنية، كان حافزاً لإقامة نصب عالمية الطراز ترمز للمقاومة والقدرة على ترويض البيئة المباشرة -الصحراء- بشكل مماثل لترويض المصريين، وسكان بلاد ما بين الرافدين، لأنهارهم العظيمة. غير أن التأكيد في هذه الإنجازات على بعد الزمن، بما رافق ذلك من ضغوط سياسية قامت بها الإمبراطورية الرومانية التي استخدمت وسيلة اتصالية أكثر مرونة (حروف العلة) أدت جميعها إلى قبول الضم وليس الاحتلال. ولأن حروف العلة لم تكن أساسية "في الأبجديات السامية الغربية"
(
Healey: 203
)
، فان ضم المملكة النبطية لم يؤد إلى انتهاء نفوذها، بل ساعد في نشر ثقافتها. وهكذا، سمحت استمرارية الحضور النبطي في ذلك، والموقع الاستراتيجي، إلى إيقاف تقدم اليونانية واللاتينية، متيحةً الفرصة لإحداث أثر اتصالي دائم. وساعدت الرسالة السماوية -الإسلام الحنيف- على نشر الحرف النبطي المرن، الذي فُضل على الحرف السرياني ، كما فُضّل على الحرف الثمودي الذي لم يتطور. لقد تبنى الإسلام، الرسالة السماوية الجديدة، حرفا عربي الأصول ليحمل الرسالة الجديدة، وليحول دون أي تداخل مع الثقافات الأخرى التي سبقته. وأصبح الحرف العربي النبطي، نتيجة مباشرة لهذا الإجراء، الحرف "الثاني بعد الحرف اللاتيني، في سعة الانتشار في عالمنا اليوم"
(
Diringer: 210
)
، وكان في الأمس القريب، إبان ازدهار الحضارة العربية، الحرف الأول في العصور الوسطى بدون منازع.
في بداية هذه الدراسة، أشرنا إلى أن الاتصال يقوم بدور حاسم وأساسي في نهوض الإمبراطوريات ومن ثم سقوطها. وقد بينت هذه الدراسة أن تطوير وسيلة اتصالية مهمة جداً، كالخط، لا يأتي من فراغ، وإنما عن مؤسسة قوية ذات قدرات إدارية متميزة، مما توفر عند الأنباط. وأصبح الاتصال، في المملكة العربية النبطية، مركزياً لنشاطات عدة. كما أنه لعب دوراً في صعود شأن هذه المملكة، وفي استمرار تأثيرها. ثم أن الآثار التي خلفتها حضارتهم لم تقتصر على بلاد الأنباط فحسب، بل انتشرت كالموجة في المحيط العربي المجاور. وبلغ هذا التأثير قمته بعد بضع مئات من السنين، في الوقت الذي طوت فيه صفحة النسيان المجد النبطي، تماماً مثل السراب الذي يتلاشى في الصحراء.
لقد أغدق الفينيقيون قبل الأنباط على الإنسانية "أعظم اختراع جاء به الإنسان"
(
Hitti: 102
)
، وعلى الرغم من أن هذين الشعبين لم يخلفا وراءهما سجلاً أدبياً وتاريخياً خاصاً بهما، إلا أن هذه تبدو بالتأكيد إحدى مفارقات تاريخ الشرق.
لقد طور الأنباط أهم أداة اتصال تركوها للعرب، وانتشرت على نطاق واسع أبجدية عالمية، موازية في القوة للأبجدية اللاتينية. ومن هنا تظل البتراء عاصمة للأبجدية العربية العالمية في الثورة الأولى للاتصال بلا منازع.
الحروف التي انبثقت عن الحرف النبطي العربي
الحرف النبطي العربي-----
العربي الحديث، الفارسي، التركي، التتري، الأفغاني، الماليزي، الهندوستاني (الأوردي)، البوسني (السلافي)، الخمايدو (الإسباني)، البولندي، الأوكراني، الهوسا والفلاني، السواحيلي، العبري، البربري.
المراجع العربية:
الأسد، ناصر الدين. مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية. (ط 7). دار الجيل: بيروت، 1988.
الحمد، غانم قدوري. رسم المصحف: دراسة لغوية تاريخية. اللجنة الوطنية للاحتفال بمطلع القرن الخامس عشر الهجري: بغداد، 1982.
عباس، إحسان. تاريخ دولة الأنباط. دار الشروق: عمان، 1986.
عفيفي، فوزي سالم. نشأة وتطور الكتابة الخطية العربية ودورها الثقافي. وكالة المطبوعات: الكويت، 1980.
الموسى، عصام سليمان. العرب وثورة الاتصال الأولى. مكتبة الكتاني: اربد، 1999.