الصدى في وسائل الاعلام

البتراء ليلاً.... قيثارة أوتارها الاعمدة

الرأي/الجمعة 14 أيلول/2001

مفلح العدوان

إلى بيت الأنباط

  ليلاً... دهشة البتراء!!

والنور حولك، والنور فوقك، والصخر شاهد الحضور....

إمش في السيق.... لست وحدك هنا!!

شموع على طوال الدرب يميناً ويساراً، وانت بين لهب الغواية، ونار الذاكرة، تسمع وترى، فتحدس إيماءات الأرواح حولك... تمشي، والصخر يقترب، حينا، حتى يكاد يضمّك في معرض محاولاته عناق الشق الآخر منه، وتارة يبتعد ملوحا بتشكيلاته، سلاما للوجه الثاني من السيق الذي أنت فيه!!

ما زلت هناك....

والشموع تتثاءب حولك، راسمة بغموض   لهبها بتراء أخرى، فالنور اختلف، ولليل اغواؤه وغوايته، وشبقه الموحي، وأحلامه، وسكونه، فكيف الحال والطقس نبطي تخرق ظلمته شموع، واكتمال بدر، وصمت الماشي وحيداً، محدقا في ملكوت الرقيم، مستحضرا دفاترهم القديمة، ماسحا أهدابه بزيت قناديلهم العتيقة!!

تأمّل ....

وارصد خطواتك.....

ترفّق في المشي......

خفف الوطء، واحرص على ألا تزعج الأرواح هنا، انها شفافة حين تتسلل من شقوق الصخر باحثة عن السكينة والذكرى.... ليلا.... الارواح تلمسها دافئة، مشوقة، وواثقة من حضورها السحري المهيب: (ها هو الحارث، وتلك شقيلة، وذاك عبادة، ورب إيل، ومالك، وملكا، والنحات ماسك بن عويذا، وها هم الموسيقيون والشعراء، والراقصون، والكهنة).... ازدحم السيق بارواحهم، بينما كل يحمل ذاكرته وذكراه، ارثه المتبقي مشيرا اليه، وانت بينهم، وحدك المجسد بشرا في انسياب حلولهم، فهدّئ السير، لست سائحا أنت بل نبطيا، جاء مخالفا عرف زيارة البتراء، جاعلا الليل لباسه في ولوجه، الحميميّ باحثا عن روحه بين تلك الأرواح المرفرفة في فضاء السيق، وعلى صخوره!!

تابع المسير....

وتوقف عند كل شمعة، راصدا ضفيرة لهبها، متسلقا وإياه تجاعيد الصخر، سترى التشكيلات الجديدة، ستلمح رؤى وتفاصيل أخرى: (في القمة رأس اسد بلبدته وهيبته، لا صخرة صماء.... يقابله عجوز تتدلى لحيته حتى صدر السيق، وهو متكئ على الفراغ يراقب الماشين اسفل نظره....).... تابع اللهب، واكتشف من الظلال بتراء أخرى ......

من قال ان البتراء ورديّة فقط؟! من قال انها ملك الشمس وحدها؟!

بائس من لم ير البتراء ليلا.... حقيقتها هناك، حيث صدق القراءة، ومعنى لثغات النقوش، ودفء الحياة روحاً، لا حفراً على الحجر.....

ليلا ....... الارواح تأخذك، خفيفا، من طرف يدك.... تسير بك بين شعلة الشمع ووقار الصخر، بين نور البدر ونار الدهشة، حتى تجرعك كؤوسها قصصاً وحكايا... أي نبيذ هذا؟! وسبحان اله الأنثى التي تقدمه لك امام أرباب باركوا الحب والحياة.. راقب الشموع في حضن ذي الثرى... ليس الاها ناتئا، بل هو محفور في جوف الصخر، ساكن في محراب السيق، كأنه عاشق للمكان لا إله عليه!! هو منه، اليه!! اخشع، ففي كل زاوية نصب اله، اما منحوت او مكتوب، كل شيء يضفي هالة القداسة، حتى شجرة التين المعلقة في منتصف السيق، لها إيماء مختلف، ودلالة أخرى، حيث يتراءى ورقها صفحات من كتاب مقدس، بينما اغصانها اذرع تدعو الصخر محدقة في تعرجات الطبقات فيه، كأنها ترتل اسطرا من وحي الحجر!! للشجرة إذ يتماهى بها نور الشمع جلالا مؤسطرا، تصبح مقاما ومزارا، تتلوّن بهيبة السؤال، ورهبة الجواب، تنزاح صوب عماء البدء الاول، حين تعانقت فيه بكارة فجر الاشياء..... ركز اكثر..... توحد مع رسمها، ستدخل دائرة (النيرفانا).... سترى جذرها يعانق الصخر، يتشبث به مترفعا عن الأرض قليلا، ملامسا السماء كثيرا، وبين الأسفل والأعلى هناك برج شجرة السيق التي تربّت بأوراقها على كل العابرين هنا، أرواحا، وأجسادا، وأنفاسا، حتى نور الشمع، وشعاع القمر، تربّت عليه حنوّا بعد ان تختمه بقداسة بقائها معجزة، نصفها صخر، ونصفها سماء، بينما هي تتشابه أمام الناظرين..... شجرة تين!!

لا تقف كثيرا هنا.....

أنت لو بقيت سنوات عددا، لن تسبر السرّ.... الناموس هنا رمز، تميمة، بخور، وحجاب، وطقوس سادتها سحر المكان، بينما أنت في السيق، ليلا، تتوّج كاهنا للحضرة، وعارفا بالناسوت فيها....

امش بين الشموع، تأمل الجدران الصخرية، سترى شباكا من الخلايا، وخلفها أيد تمتد اليك، مد يديك لها، لا تهملها، إنها رغبة الصخر، شفافيته التي شفّت بكل العابرين هنا، وبقيت مئات السنين تخرج ليلا مشرعة أيديها للقادم... لكن لا أحد!! أنت وحدك من جرؤت على الولوج، مجتازا الحرس، والبوابة، والظلام، وخدعة النهار، والألاعيب الرسمية، لتتعبد مع أرواح الخفاء، مقاسما تلك الأيدي خلوتها، مادّاً روحك لها..... ها هي تستقبلك بأحضان انتظارها، ضيفا عزيزا بعد طول غياب!!

يضيء ظلّك يتماهى مع ظلال نسيج الخلايا على سطح السيق، حتى انك تشعر انفاسا دافئة تقترب منك، رغم انك تمشي، الا انها تمشي معك.... تتجاوز تعرجات ومنعطفات السيق، لكن الدفء يبقى رفيقا أليفا لك..... ترفع رأسك للأعلى، تلمح فسحة بين كتل الصخر، تبطئ خطوك محدقاً، فينفرج الشقّ الأعلى من السيق، قليلا، تاركا مساحة لبدر ظهر، كالملاك، على خجل، مزينا تلك البقعة الكوّة، كأنه بصمة مشعّة سقطت من يد السماء وبقيت معلقة هناك....

لا شيء يتجزأ هنا، السماء، الأرض، التراب، الصخر، البدر، شقا السيق، شجرة التين، تجاعيد الحجر، الأنصاب، النقوش، الأنفاس، البدر، كل شيء واحد، وأنت جزء منه... بل حتى وقوفك على آخر منعطف قبل دهشة الخزنة، هو بعض روح السيق، وجزء من دفء لهب الشمع وسحره....

تأمّل بعمق......

لن تدرك ذاتك الآن، فكل تمائمك لن تفيد، وتلبسك لرداء الكهانة لن يجدي، بل حتى تقمصك لروح نبض ذاك الزمان لن يعطيك جرعة الصمود هنا... أنت حتما سيصعقك المنظر، ستخرّ مستسلما، مندهشا، لكنه سيشدّك من طرف بصرك كما بدويّ ينساق أمام إله.....

يبهرك تجلي الرؤيا في الزاوية التي تتعبّد منها الآن، أنت لا تنظر بل تتعبّد ببصرك، قبل عشرين مترا من النهاية، تتكئ على صدر تحدّب صخري، وتحت قدميك شمعة، وما تبقّى من السيق أمامك ذيل أفعى مقدسة تشير نهايته الى عدد سرمدي من الشموع ترتفع أيادي لهبها متوازية مع أجزاء من أعمدة نصّبت ذاتها ملوكا أزلية بتلك التيجان الحقيقية، رغم كل زمان!! حلّق بنظرك...

والموسيقى تسعى إليك قادمة مع النور، كأنما الخزنة قيثارة، أوتارها الأعمدة، ولا تبوح بجلال لحنها إلا ليلا، إلا لك في تلك الزاوية المقدسة، حيث الأفعى المقدسة، ومن حقيقة الموسيقى ليلا حيث روح البتراء ومعناها!!