الصدى في وسائل الاعلام

إصرار إسرائيلي على المشاركة في مؤتمر الانباط

القدس العربي السبت-الأحد 26-27 حزيران 1999

جمال الشتيوي

 

ليس غريبا ان يصر الباحثون الإسرائيليون على المشاركة في مؤتمر الانباط الذي ينعقد حاليا في مدينة البتراء الوردية، بمشاركة 23 باحثا من مختلف الدول العربية والاجنبية، فالمؤتمر الذي نظمته هيئة الثقافة العربية على مدار ثلاثة ايام، ينسف الادعاءات التاريخية اليهودية القائلة بان البتراء عاصمة دينية لليهود فضلا عن رفضه القاطع التنازل عن التاريخ الوحدوي العربي الذي نشأ بفضل هذه الجماعة العربية "الانباط" في كينونتها الاولى حينما منح الانباط العرب لون الهوية واللسان وشكل الحرف.
المدينة الوردية الاردنية لا تزال لغزا يحير البشرية، في شكل بنائها ولعل مبلغ فتنتها كمدينة اجمل في العالم، هو الذي يثير الاختلاف في هوية بناتها. فثمة آراء تقول بانهم قوم عاد وثمود، الجن، العرب الانباط، وكما كان الانباط. أول قومية تهزم روما في عام 313 قبل الميلاد عربا خالصين فان تاريخهم الذي خلفوه وراءهم يطرد الاسرائيليين خارج دائرة الادعاء بان المدينة الوردية عاصمتهم الدينية.
اللافت للانتباه، ان إصرار الإسرائيليين على المشاركة في المؤتمر تكلل بالفشل، على الرغم من اتصالاتهم المكثفة، مع جهات رسمية وشعبية مختلفة، حيث اتصلت جمعيات إسرائيلية مجهولة بمصدر رسمي اردني رفيع المستوى، وطلبت منه السماح لعلماء وباحثين اسرائيليين بالمشاركة بخمسة باحثين لكنه رفض التدخل في هذه المسألة،" لان المؤتمر خاص بهيئة شعبية لا علاقة للجهات الرسمية به"، فعاد الإسرائيليون أدراجهم يعرضون على " الهيئة العربية للثقافة والتواصل الحضاري" وهي منظمة المؤتمر المشاركة الاسرائيلية وفق شروط تحددها الهيئة الاردنية.
لكن الهيئة حسمت الأمر فورا ورفضت المشاركة الاسرائيلية وردّت الوساطات المتعلقة بهذا الشأن، فالهيئة على حد تعبير رئيسها الباحث الاردني باسم الطويسي:" اقامت المؤتمر للتأكيد على عروبة البتراء والانباط، ونحن ضد التطبيع بشكل مطلق، وغير قابل للنقاش".
ومع ذلك، فان اصل البتراء وهويتها المسألة الأهم التي دفعت بالهيئة المنظمة للمؤتمر رفض المشاركة الاسرائيلية، فهي على اطلاع كامل بما يحاول الاسرائيليون ترويجه من مزاعم " بان البتراء العاصمة الدينية للاسرائيليين بدليل وجود عدد من النقوش النبطية في بئر السبع". مما حدا بالباحثين المشاركين الى دحض الآراء الاسرائيلية جملة وتفصيلا، فالانباط امتدت حضارتهم في شبه الجزيرة العربية ونقوشهم العربية موجودة في عدد غير قليل من البلاد العربية بما فيها فلسطين، ولا أدل على ذلك من ان اغلب المصادر التاريخية أكدت بان الانباط من عرب شبه الجزيرة العربية وسموا بالانباط لتمكنهم من استنباط الماء في ظروف جغرافية وطبيعية صعبة.

ولم يكن غائبا عن المؤتمر هدف الاسرائيليين بالاستيلاء علميا على التاريخ النبطي، فهم بذلك، يثبتون تواجدهم التاريخي في المنطقة قبل العرب، ويفعلون هذه المسألة للاستفادة منها بشكل كبير في الناحية السياحية، خاصة وان مكاتبهم السياحية المنتشرة في أرجاء المعمورة تصور البتراء في منشوراتها على انها اسرائيلية وتجلب السواح اليها سنويا مما يوفر لها 750 مليون شيكل على مدار العام.

لكن الادعاء السالف لم يثر الباحثين العرب، فالباحث الامريكي الذي روج هذه المقولة " لم يزر موقع البتراء ولو لمرة واحدة في حياته، كما دلت أبحاثه على ذلك، وعلاوة على ذلك، فهو مجهول لأهل العلم".

ويستند الباحثون العرب المشاركون في المؤتمر الى عدد هائل من المصادر التي تؤكد عربية البتراء والانباط، وابرز هذه المصادر تعود للفراهيدي والازهري، وابن فارس، في حين ان اعتماد الاسرائيليين على مسميات مشابهة لتسمية النبط، وردت في التوراة مثل: " يربعام بن نباط، ونبايوت" انتقده الباحثون كافة، ورفضوه جملة وتفصيلا، وخاصة "ستاركي" الذي ارتأى ان الاسماء الواردة في التوراة، بما فيها "نباتو" تعني فقط من خلال الترجمة الحقيقية لها " كشف الله عن نفسه" وهو اسم علم يدل على بكر اسماعيل ولا علاقة له بالنبط.

اما خلافية اصل، "الانباط" التي يثيرها الاسرائيليون فهي لا تستند على رأي علمي البتة، فالمصادر القديمة والمراجع الحديثة تجمع على عروبة اصل الانباط، ففي رواية المسعودي عن مدينة بابل، يقول فيها" كان الناس بعد الطوفان مجتمعين بمكان واحد بأرض بابل ولغتهم السريانية ثم تفرقوا، فكان قحطان، وعاد، وثمود، وعملاق..." " وألهمهم الله تعالى هذا اللسان العربي، وسار جدهم منزل مكة ...".

ويضيف المسعودي:" مدينة بابل ملكها نمرود بن ماشر هو الذي بنى الصرح ببابل، وجسر جسرا ببابل على شاطئ الفرات وهو ملك النبط، لان النبط بنو نبيط بن ماشر بن آرم بن سام بن نوح..".
اما الخط النبطي فمر بمرحلتين، الاولى: الخط النبطي القديم، والثانية: شهدت ما يعرف بالخط النبطي المتأخر ومن هذا الاخير ولد الخط العربي، الذي ظهر بوضوح في النقوش النبطية المتأخرة، وقد استعمل الخط الآرامي المشتق من الفينيقي ولكنهم حوروه وصقلوه تدريجيا حتى اصبح خطا قائما بذاته وانحدر منه الخط العربي الكوفي.
وفي سبيل ذلك، يقول الدكتور العراقي جواد العلي:" ان النبط مثلهم مثل غيرهم من العرب استعملوا الآرامية في كتاباتهم بدليل ان أسماءهم هي أسماء عربية خالصة، وانهم يشاركون العرب في عبادة الاصنام المعروفة عند عرب الحجاز".
المدينة الأثرية التي ترنو اليها عيون الاسرائيليين في تنشيط القطاع السياحي لديهم، لا تزال تدل حتى الساعة على ان الفن النبطي في النحت والتصوير والبناء والمصنوعات والنقوش والمسكوكات المضروبة فيها، هو التقاء للفن البابلي والآشوري بالمصري مع المنحوتات النبطية، وبذلك تؤكد الروايات التاريخية على عروبة الانباط اسما واصلا وموطنا، إذ ترك" العرب البدو" بصماتهم على حركة التاريخ العربية في الحقبة التي عاصروها ليكونوا بذلك إحدى الحلقات في تاريخ الامة العربية، وليأكدوا من خلال ذلك انتماءهم الى جيل من اجيال امة العرب.

لم تعد مسألة عروبة الأنباط موضع شك، فقد حسم المشاركون هذه القضية، بما قدموه من بحوث ودراسات عن الأنباط وأكدتها الحقائق والأدلة العلمية التي تناولت اصل الأنباط ونشأة كيانهم التاريخي، كما أكدت فضل هذه الجماعة العربية في نشأة الأمة العربية في كينونتها الأولى حينما منح العرب الأنباط الأمة بأكملها لون الهوية واللسان وشكل الحرف.